الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة في خطأ بلاغي قاتل

بواسطة azzaman

قراءة في خطأ بلاغي قاتل

إسماعيل محمود العيسى

 

في بغداد، صباح السبت 26 تموز 2025؛ احتشدت رموز الدولة العراقية في مشهد غير مألوف؛ لحضور فعاليات المؤتمر السابع عشر لمناهضة العنف ضد المرأة الذي نظمه أحد التيارات السياسية المعروفة؛ وحضره رئيس مجلس النواب؛ تلاه رئيس الجمهورية؛ ثم رئيس مجلس القضاء الأعلى؛ ورئيس مجلس الوزراء؛ إلى جانب رؤساء وممثلي البعثات الدبلوماسية العربية والإسلامية والأجنبية؛ في مشهد وطني ودولي أراد له المنظمون أن يكون رسالة للعالم بأن العراق ينهض لقضايا الإنسان؛ وبأن المرأة ليست قضية ثانوية؛ بل عنوان أصيل لحضارة تُبنى بالكرامة والعدالة؛ غير أن ما غاب عن كثيرين وسط بهجة الحضور ورمزية الكلمات؛ هو أن عنوان المناسبة ذاتها كان محمّلاً بخطأ بلاغي قاتل يكاد يقلب الرسالة كلها؛ دون أن يشعر بها سوى القليل من المتخصصين، فحين اختير عنوان “اليوم الإسلامي لمناهضة العنف ضد المرأة”، بدا الأمر في ظاهره متماشيًا مع روح الخطاب؛ لكنه في حقيقته ينطوي على خلل بنيوي لغوي في اللغة العربية؛ يضع الإسلام في غير موضعه؛ بل قد يُفهم منه أن الإسلام طرف في العنف؛  وأن تخصيص يوم “إسلامي” لمناهضة العنف يأتي لتبرئة هذا الدين أو التخفيف من مسؤوليته؛ وهذا مخالف تمامًا للمقصد الذي قامت عليه الدعوة والمؤتمر معًا؛ ففي قواعد اللغة؛حين يُضاف “الإسلامي” إلى “اليوم” فإن هذا يقتضي أن يكون الإسلام هو المنشئ أو المشرّع لهذا اليوم؛ أو على الأقل الجهة المنظمة له؛ مما قد يُفهم بأن اليوم وُضع كرد فعل على عنف منسوب إلى الإسلام؛ في حين أن الإسلام في جوهره وتاريخه وتعاليمه؛ يجرّم العنف ضد المرأة ويؤسس لكرامتها وحقوقها منذ أربعة عشر قرنًا؛ ولهذا فإن صياغة العنوان بهذه الطريقة لا تنقل الرسالة؛ بل تشوّشها؛ وتفتح باب التأويلات المغلوطة؛ خاصة في المحافل الدولية التي لا تقرأ الإسلام من مصادره؛ بل من عناويننا.

كان الأجدر أن يُصاغ العنوان على نحو أدق وأكثر أمانة لغوية ومعنوية؛ كأن يُقال “موقف الإسلام من العنف ضد المرأة” أو “المؤتمر الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة في ضوء الشريعة الإسلامية” أو حتى “اليوم التوعوي وفق الرؤية الإسلامية”؛ وكلها صيغ تحقّق المعنى بلا التباس، إن الخطر لا يكمن في العنوان وحده؛ بل في أنه أُعلن في مناسبة سيادية؛ وبحضور كل مؤسسات الدولة؛ وكان لافتة رسمية تتردد في الإعلام وعلى ألسنة الخطباء والمتحدثين؛ دون أن ينتبه إلى خطورته إلا القليل؛ وهذا ما يُحزن في زمن تختلط فيه المصطلحات وتُختطف الرسائل من بين سطورها، فحين تتكلم الدولة؛ يجب أن تكون اللغة بوزن المرحلة؛ والعنوان على قدر الرسالة؛ لأن الكلمة لا تزيّن المناسبة؛ بل تحكم معناها وتحدد مسارها في وعي الجمهور، ولسنا هنا بصدد محاكمة النوايا؛ فالمعنى الذي أريد كان نبيلًا؛ والجهود المبذولة مشكورة؛ لكن هذا لا يمنع من أن الخطأ في صياغة العنوان أضعف الرسالة؛ وربما زاد في التباسات الصورة لدى الآخر، وإذا كانت الرسائل الكبرى تبدأ من الوضوح؛ فإن الكلمة هي أول شاهد على هذا الوضوح أو أول خاذل له، والمفارقة أن الإسلام لا يحتاج إلى يوم يُعفى فيه من العنف؛ بل تحتاج البشرية إلى وعي يُنقذها من العنف باسم الدين، لذلك فإن مراجعة العبارات ليست ترفًا لغويًا؛ بل مسؤولية فكرية وأخلاقية ووطنية تحفظ المعنى وتدافع عن هوية الرسالة قبل أن يلتبس المقصد وتضيع الحقيقة في زحمة النوايا الحسنة.

وأخيراً نقول إن المعركة الحقيقية ضد العنف تبدأ من وضوح الرسائل؛ ودقّة التعبير عنها؛ فهل ننتبه لما نقول قبل أن نقول!.

 

 

 

 


مشاهدات 122
الكاتب إسماعيل محمود العيسى
أضيف 2025/07/28 - 3:00 AM
آخر تحديث 2025/07/28 - 8:25 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 293 الشهر 18654 الكلي 11172266
الوقت الآن
الإثنين 2025/7/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير