الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عندما يُصبح العقل عبئًا

بواسطة azzaman

عندما يُصبح العقل عبئًا

نهلة الدراجي

 

هل جرب أحدكم يومًا أن يكون عاقلًا في بيئة تزدري العقل، أو أن يحمل فكرة نيّرة في مجتمع يُصفّق للبلاهة؟ كيف يشعر من يحمل على كتفيه مشروع نهضة، بينما تُعلّق على صدره لافتة «مُزعج»، «متفلسف»، أو «لا يشبهنا»؟ ما مصير أمة تُحاصر مفكّريها، وتُكرّم الجهلاء، وتمنحهم المنابر والتصفيق؟

لماذا يعلو صوت التهريج بينما يُخنق الفكر الحر؟ في مجتمعات ابتُليت بتمجيد الهامش وتحقير الجوهر، يصبح العقل عبئًا، والمبدع متهمًا، والمفكر غريبًا في وطنه. أزمة ثقافية ضاربة في الجذور، تعكس اختلال القيم واضطراب البوصلة.

من المؤلم أن نرصد تنامي ظاهرة تلميع الجهل وتهميش العقل في مجتمعنا، حيث تتحول الساحة الثقافية والإعلامية إلى فضاء يعج بالمحتوى السطحي، وتُمنح الشهرة والوجاهة لمن يفتقرون لأدنى مقومات الفكر أو القيمة، بينما يُحاصر المثقفون والمفكرون، ويُتهمون بالغرابة أو التعقيد أو إثارة الفتن.

هذه المفارقة ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة تراكمات طويلة من سياسات التجهيل، وانهيار منظومات التعليم، وتهميش دور النخب الحقيقية، مما أفرز مشهدًا ثقافيًا يُكافئ الرداءة ويُعاقب التميز. في مثل هذه البيئات، يصبح المهرج رمزًا للذكاء، والمفكر عبئًا يجب التخلص منه، ويُستبدل الحوار الجاد بالضحك المجاني، والنقاش العميق بالسطحية الفاقعة.

إن المجتمعات التي تحتفل بالسطحية وتحارب العقل، لا يمكن أن تتقدم. فالتاريخ يعلمنا أن الأمم التي نهضت إنما فعلت ذلك حين احترمت العقل واحتفت بالعلم وكرّمت المبدعين، بينما سقطت حضارات حين اختارت الجهل طريقًا، وخنقت الفكر باسم العادات أو الأمن أو الاستقرار.

ولعل الأخطر من ذلك، أن هذه الممارسات تخلق أجيالًا لا تؤمن بقيمة الفكر، ولا تُدرك أهمية السؤال، ولا ترى في المعرفة إلا وسيلة للحصول على وظيفة، لا مشروعًا للحياة. أجيال مفصولة عن تراثها العقلي، وعن دورها في صناعة المستقبل، تُقاد ولا تقود، وتُستهلك ولا تُنتج.

إن مسؤولية التغيير لا تقع على عاتق المفكرين وحدهم، بل على الإعلام، والتعليم، وصنّاع القرار، وكل فرد في المجتمع. فإعادة الاعتبار للعقل ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية إذا أردنا أن نكون في قلب العصر لا على هامشه. إما أن نكون مجتمعات تُكرم العقول وتُعلي من شأن الفكر، أو أن نظل أسرى لواقع يُدار بعشوائية، فلا مستقبل لمجتمع يكرّم الجهل ويُحارب الفكر. ولا نهضة تُبنى على تهميش العقول. فالمجد يُصنع بالتفكير، والكرامة لا تُستعاد إلا حين يُعاد الاعتبار للعقل، ويُقال للجاهل: قف، وللعاقل: تفضل.                            

 

 

 

 


مشاهدات 56
الكاتب نهلة الدراجي
أضيف 2025/04/21 - 2:23 PM
آخر تحديث 2025/04/22 - 12:30 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 837 الشهر 23283 الكلي 10903930
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/4/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير