الفَوْز في اليانصيب
فيصل عبدالحسن
نتذكر نظافة يد نوري السعيد، رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي العراقي، الذي اتضح بعد 14 تموز عند الإطاحة بالملكية، أنه كان بلا أرصدة مالية، وأن ذمته سليمة، وأنه لم ينثر المال العام على أهله وعشيرته، ولم يترك قصورا في العراق، ولا بريطانيا، ولا لبنان أو غيرها من الدول، فقد انتقل عام 1949 من بيته القديم، الذي كان قرب مزرعة الخس( كان المكان قريبا من أكاديمية الفنون الجميلة الحالية) إلى منزله الجديد في كرادة مريم(قرب فندق الميليا منصور الحالي) وكان تعليله لذلك الانتقال أنه ملَّ من الزيارات الليلية للسكارى والمتشردين، الذين كانوا يؤمون مزرعة الخس ليلا، ويسكرون فيها، ويتشاجرون في آخر الليل، ويملأون المنطقة ضجيجا، وقد أتهمه معارضوه حينها بأنه مدَّ يده للمال العام لبناء منزله الجديد، ولكن لم يقدم أولئك المعارضون وثائق أو قرائن تدلل على صدق دعواهم، لذلك ذهب أدعاؤهم ذاك إلى مزبلة النسيان، ومن أطرف ما ذكر بعد ذلك في إحدى الجرائد اللبنانية عام 1959 في حوار مع صديقه المليونير اللبناني أميل البستاني، الذي ذكر أنه وجد نوري السعيد أثناء بناء منزله الجديد معسرا، ولا يستطيع إكماله، فساعده ماليا ليكمل بناء منزله!
نوري السعيد، كان أحد رجالات ذلك الماضي، فالسعيد لم يكرهه الناس لأنه عديم الذمة، ولم يحفظ أموال الحكومة بل كان مكروها من الناس بسبب ميله للانجليز، واعتقاده بأنهم الوتد المكين لاستناد أي سياسي عراقي، وفي تمكين بلاده لتصير مستقرة، وهي قناعة، سياسي من طراز ذلك الزمان، واجتهاد له، راهن عليه، في زمن الحرب الباردة بين معسكرين دوليين كبيرين، وكان اختياره في ذلك الوقت اتباع المعسكر الليبرالي، الذي كانت تمثله بريطانيا، والتي كانت لها اليد الطولى في تأسيس الدولة العراقية، لقد كانت له وجهة نظر، خاصة به وحاول إن يعممها على العراقيين، ومعه في ذلك الأمر من آمن بها من رجال الحكم الملكي، فأن أخطأ فعليه وعليهم ذنبها، وإن أصاب فلهم حسنتها!
الزعيم الأوحد
إما الحديث عن أمانة يد الزعيم عبد الكريم قاسم، فهذا موضوع أشبع بحثا من قبل أعدائه قبل أصحابه، فالذين انقلبوا عليه في رمضان من عام 1963 حاولوا بعد ذلك البحث في سجلات المصارف، وعهدة وزارة الدفاع، فلم يجدوا في رصيده سوى 241 فلسا، والمبلغ هو ما تبقى من راتب شهره الأخير في الخدمة، وقد وجدت دائرة البريد أن هاتفه المنزلي كان مطلوبا عدة دنانير، لم يسددها الزعيم لدائرة الهاتف، وسددها عنه أحمد حسن البكر عام 1977 حين كان رئيسا للجمهورية في زمن حكومة البعث الثانية، (وكان البكر أحد الضباط المتآمرين الرئيسيين في الانقلاب، الذي أطاح بالزعيم، وكان أيضا من المصوتين بالإيجاب على إعدامه في قاعة الموسيقى بالإذاعة العراقية ).
ومن الطريف أن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يسكن في منزل يملكه بل كان مؤجرا لمشتمل صغير من وزارة الأوقاف في منطقة الكرادة الشرقية بجوار بيت أخته، وكان غداؤه يعد في وزارة الدفاع من قبل عريف طباخ أسمه جاسم، كان يرافقه من زمن أمريته لفوج في منطقة المنصورية، وحين يذهب ذلك العريف في إجازة يوصي سائقه العريف جاسب أن يجلب له نفر كباب من مطعم صغير يقع قريبا من وزارة الدفاع، إما حين يملُّ أكل المطاعم، فإنه كان يوصي أخته بطبخ غدائه، فتطبخ له وترسله مع سائقه بسفرطاس يتكون من ثلاث خانات، واحدة للمرق، وأخرى للرز، وثالثة للسلطة، هذا الرجل الذي كان(الزعيم الأوحد) لجمهورية العراق، كما يسميه أعداؤه، وكان قائدا أعلى لقواتها المسلحة، ورئيسا لوزرائها، هذه هي حياته الخاصة، ولنا في حياة أولئك الشرفاء وحياة معظم هؤلاء السياسيين الفاسدين بعراق اليوم، مقارنة لا يمكن بأي حال من الأحوال تخيل الفرق بينهما !
الزمن الجميل
أما من أخبار الرؤساء العرب في الأمانة والوطنية، الخبر الذي نشرته الصحافة العربية قبل أيام، والذي أرجع الناس إلى جمال أيام زمان، ونظافة أيدي مسؤوليه، يقول الخبر:”انتهى الحال بإبن أول رئيس لجمهورية مصر العربية للعمل سائق أجرة يجوب أقطار مصر، باحثا عن حياة كريمة وساعيا إلى رأب صدع الحياة القاسية، التي أجبرته على هذه المهنة، نعم يعمل يوسف إبن الرئيس المصري محمد نجيب نهارا سائقا لدى شركة مقاولات مصرية، ويعمل ليلا سائقا على سيارة أجرة لتحسين وضعه المالي، ومواجهة الظروف المعيشية الصعبة” نعم هذا إبن رئيس عربي من طراز أولئك، الذين تهفوا لذكراهم النفوس، وتتمنى أن تعود أيامهم على علاتها، وما فيها من تحديات مع المستعمرين، الأجانب، والفقر، وحاجة الناس للخدمات والثياب، والغذاء وكل شيء، لم تكن ثورات أولئك وانقلاباتهم على ملوكهم وحكامهم من أجل السلطة لذاتها، ولما تجلبه السلطة من منافع مادية ومعنوية، فيصير الواحد منهم كذلك الذي فاز بالجائزة الأولى في اليانصيب، فالفرصة كما يعتقدون لا تأتي إلا مرة واحدة، ومجنون من يضيعها بدعوى نظافة اليد والأمانة!
كاتب مقيم بالمغرب