من يقود من؟
منتصر صباح الحسناوي
العالم اليوم يتغيّر بسرعة هايلة، اسرع من قدرة الانسان على استيعابه.
التطور التكنولوجي مع الذكاء الاصطناعي والعوالم الافتراضية، يحدث بسرعة تفوق قدرة البشر على استيعابه والتكيّف معه بالكامل.
كنا في الماضي نشهد تطورات تدريجية تسمح لنا بالتكيّف معها، نجد انفسنا اليوم امام قفزات هايلة قد تسبق استعدادنا النفسي، الثقافي، وحتى الاخلاقي.الطوفان المعلوماتي جعل الوصول الى المعلومة سهلاً، لكنّه في الوقت ذاته زاد من صعوبة التمييز بين الصدق والتضليل، كل فرد اصبح بامكانه ان يصنع “حقيقته الخاصة” ويبني رويته بناءً على ما يوافق قناعاته او يخدم اهدافه.
تعريف الحقيقة
يبدو اننا نعيش في زمن اصبح تعريف الحقيقة فيه مرناً، يخضع للتاويل والتوجيه ، لم تعد الحقيقة كما كانت سابقاً، مسالة واضحة تستند الى وقايع ثابتة، بل باتت خاضعة للتنافس بين السرديات المختلفة، اذ يتّم تشكيلها واعادة تشكيلها وفقاً للمصالح والرغبات.
لكن هل انتهت الحقيقة فعلاً؟ ام انها ضاعت وسط الضجيج؟
ربما لا تزال الحقيقة موجودة لكنّها تحتاج الى عيونٍ صافية وعقولٍ واعية لا تنخدع ببريق الدعاية والزيف.
مرَّت على العالم تحولات في الماضي، كان الانسان هو القايد، صاحب القرار، من يحدد الحقيقة ويميّز بين الصواب والخطا، لكنه اليوم في عالم مختلف لم يعد فيه تعريف الحقيقة كما كان، بل اصبح خاضعاً للخوارزميات والتكنولوجيا الحديثة.
لم يعد هناك اتّفاق على ما هو حقيقي، صورة قد تكون مزيّفة لكنها تقنع الملايين، فيديو قد يكون مختلقاً لكنه يشعل الفتن، حتى الافكار والمعتقدات لم تعد بمناى عن اعادة التشكيل الرقمي، والقادم القريب يجعل هذه العقول الافتراضية تتحكم بافعالنا وقد توجهنا باوامر غير مُدرَكة لنا.
لقد دخلنا عصراً تستطيع فيه التكنولوجيا ان تصنع واقعاً بديلاً يبدو اكثر اقناعاً من الحقيقة نفسها.
كانت الالات مجرّد ادوات، تُنفذ الاوامر التي يُمليها عليها الانسان لكنها تعلمت وتطورت واصبحت تفكر وتحلل وتقترح وتُقرر، لم تعد تنتظر التعليمات، بل باتت توجه البشر نحو اختيارات محددة دون ان يدركوا انهم لم يعودوا احراراً كما يظنون.
اليوم، الذكاء الاصطناعي يَكتب الاخبار، يَصنع الموسيقى، يَبتكر الافكار، يَرسم وجوهاً لاشخاص لم يولدوا وينطق باصواتٍ لم تصدر عن اصحابها.
لم يعدْ الانسان وحده من يصنع الابداع… فالالة الان شريكةٌ فيه بل وربما بدات تتفوق عليه.
لكنّ الاخطر من ذلك، ان الحقيقة لم تعد بيد البشر في عالم تُصنع فيه المعلومات بلمسة زر، اصبح من الصعب التمييز بين ما هو واقعٍ وما هو محضِ خيالٍ رقميٍ، لم يعد المهم ما هو “حقيقي” فعلاً، بل ما هو “مقنع” بما يكفي ليصدقه الناس. وهنا يكون السوال كيف يَقود الذكاء الاصطناعي العالم؟
ذكاء اصطناعي
القيادة ليست فقط ان تكون في المقدمة بل ان تتحكم في الاتجاه الذي يسير فيه الاخرون، الذكاء الاصطناعي لا يقود العالم بالطريقة التقليدية التي نعرفها لكنه يمارس تاثيراً غير مريي، اقوى من اي سلطة مركزية، الخوارزميات هي ما يحدد ما نراه ونصدقه، فعندما تبحث عن شيء على الانترنت او تشاهد مقطع فيديو او تقرا خبراً فانت في الحقيقة ترى ما تريدك الخوارزميات ان تراه، لا توجد شفافية في كيفية ترتيب المعلومات ولا احد يعرف بالضبط لماذا يظهر لك محتوى معين بينما لا يظهر لك غيره، هذا يعني ان ذكاءً اصطناعياً مجهولاً قد يكون المسوول عن تشكيل ارايك وقناعاتك، دون ان تشعر بذلك، هو يدرس سلوكنا ويوجه اختياراتنا فهو لا يعمل عشوايياً بل يتعلم من سلوك المستخدمين، كلُ عمليةِ بحثٍ وكلُ اعجابٍ وكلُ تعليقٍ وكلُ ثانيةٍ تقضيها على مقطع فيديو تُسَّجل وتُحلل، وبمرور الوقت يصبح الذكاء الاصطناعي اكثر دراية بتفضيلاتك، بل وقد يتنبا بما ستفكر به قبل ان تفكر فيه.
هذا لا يمنحك المزيد من الحرية بل يجعلك اكثر قابلية للتوجيه دون ان تدرك ذلك، فالروبوتات الذكية تتخذ القرارات بدلاً عنك. في مجالات مختلفة مثل التجارة ، الطب، وحتى الحروب، اصبح الذكاء الاصطناعي هو من يتخذ القرارات. الاسواق المالية تُدار بواسطة خوارزميات التداول، المستشفيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي في تشخيص الامراض، والطايرات العسكرية المسيرة قادرة على شن هجمات دون تدخل بشري مباشر.
هل نحن بالفعل من يقرر؟ ام ان الالة اصبحت القايد الحقيقي؟
الاخطر هو اعادة تشكيل الذاكرة الجمعية ، في الماضي، كانت الكتب والمراجع والتاريخ المكتوب هي المصادر التي تحدد وعي الشعوب. اليوم، تعتمد الذاكرة الجمعية على الانترنت لكنّ الانترنت نفسه متغيٍر.
المعلومات تُحذف، تُعدل، يُعاد صياغتها، ويتم استبدال الحقايق القديمة بـ”حقايق” جديدة. في هذا السياق لم تعد الحقيقة شيياً يمكن الرجوع اليه بل اصبحت شيياً يمكن تصنيعه وتوجيهه.
وهذا الطريق الذي لم نحسمه بعد هل نحن فيه من يقود التكنولوجيا، ام انها اصبحت تقودنا؟
نحن نقف الان على مفترق طرق:
اما ان نستخدم هذه التكنولوجيا بوعيٍ، ونَضع لها حدوداً تحمي الانسان من ان يفقد هويته امام الالة.
او ان نترك الامور تسير كما هي حتى نجد انفسنا نعيش في عالم تصنعه الخوارزميات، ونصدق ما تقوله لنا لانها ببساطة “تعرفنا” اكثر مما نعرف انفسنا.
في هذا الزمن، حيث اصبح من الممكن اعادة تشكيل الواقع وفقاً لرغبات صانعيه، لم يعد السوال عن الحقيقة، بل عن من يملك القدرة على صنعها.
هل ما زلنا نحن من يقود هذا التطور، ام اننا اصبحنا مجرد ركاب في قطار لم نعد نعرف وجهته؟
ببساطة تسونامي التطور في الذكاء الاصطناعي سيتجاوز كل حدود المعرفة البشرية ، القادم سيغيّر كل شي.