سنعود كما كنا بل أفضل مما كنا
ثامر مراد
في كل ركن من هذه المدينة الجريحة، حيث الحجارة المتناثرة تروي قصة الدمار، وحيث الأزقة القديمة تحمل آثار الدخان، هناك قلوب لا تزال تنبض، وأرواح تأبى أن تستسلم. ليست الأنقاض وحدها ما يملأ المكان، بل أصوات الأطفال وهم يركضون بين الحطام، يضحكون، كأنهم لا يرون الفقدان، أو ربما اختاروا أن يكونوا بذورًا للأمل في أرض كادت أن تجف. في زوايا الأزقة التي اعتادت ضجيج الحياة، تقف امرأة بشعرها الذي غزاه الشيب، تراقب الغروب وهو ينسج لونًا آخر على السماء، تهمس لنفسها: “سنعود كما كنا... بل أفضل مما كنا.” تمسح بقايا الدمع عن وجهها، تمضي بخطوات ثابتة نحو بيتها الذي لم يبقَ منه سوى جدار وحيد، لكن في قلبها بيت كامل، بسقفه الذي تحمله الأحلام، وأبوابه التي تفتح على المستقبل. على الرصيف المحطم، يجلس فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة، بين يديه كتاب ممزق الغلاف، يقرأه بنهم، وكأن الكلمات تنقذه من الواقع. يرفع رأسه بين حين وآخر، يتأمل الأنقاض، لكنه لا يراها مجرد حجارة، بل يراها طينًا في يد معمارٍ بارع، ستحوله يداه يومًا إلى جسر جديد، مدرسة، مكتبة، أو ربما مسرحًا يعيد الضحك إلى الشفاه. وفي زوايا المستشفى التي لم تسلم من الألم، تمسك طبيبة شابة بيد مريضها، تبتسم له رغم التعب، رغم الأيام التي لم تذق فيها طعم النوم، تقول له بصوت ملؤه اليقين: “ستنهض، وستعود أقوى.” كم مرة همست بهذه الكلمات؟ وكم مرة صدقتها رغم كل شيء؟
ليست المدينة وحدها التي تحترق، بل هناك أرواح أحرقتها الخيبات، وأحلام كادت أن تنطفئ، لكن وسط هذا الرماد، كانت هناك شرارات صغيرة تتوهج، كانت هناك أصابع ترتجف وهي تكتب قصيدة، كانت هناك يد ترتفع للسماء بدعاء، كانت هناك عيون تبحث عن أفق جديد، وكانت هناك قلوب تشعل الأمل، حتى من بين الأنقاض. إنه الأمل، ذلك العناد العجيب الذي يجعل الإنسان يبتسم وسط الدموع، ويقف بعد كل سقوط، ويمشي وسط الركام ليزرع زهرة، حتى وإن كانت زهرة واحدة في حقل من الخراب.