حين تنعى نفسك
منقذ داغر
الموت حقيقة الحياة ومأساتها فهو القدر الذي لا مفر الا اليه، وهو الحذر الذي لا طريق الا اليه. من منا لم يُفجع بأبٍ أو أمٍ أو أخٍ أو عزيزٍ عليه. من منا لم ينعَ زميلاً أو صديقاً أو أحد معارفه. لكني أكتشفت أمس أن تجربة نعي صديق شبابِك ورفيق عمرك تجربةً أخرى وحكاية أخرى. أنها نعيٌ لذكرياتك الحميمة، وصورك الجميلة وضحكاتك الأثيرة ومحطات عمرك وأطلال مسيرتك . حين تنعى صديقاً حميماً وأخٍاً قديماً فأنك تنعى نفسك التي تراها فيه وتبصردَربكَ الذي تسير اليه. أنك لا تنعى الصديق، بل تنعى الطريق. طريقٌ سرتماه فرحاً وتقاسمتماه ترحاً ولم تغادراه برحاً.حينما يغادرك صديق شبابِك تتذكر أن الموت واقفٌ ببابك، وأن الأجل الذي تنساه لا ينسى غيابك. تتذكر فرح الحياة الذي يفارق،ومحنة الموت الذي لا يفارق.
أنك تنعى لحظات عشتماها معاً وذكريات صغتماها معاً وحياة الفتماها وبنيتماها معاً. لم أكترث لأنه ليس من طائفتي ولم يكترث لأني لست من مذهبه.
فرح والسعادة
لم يسألني عن أهلي ولم أسأله عن عشيرته. أحببته لأنه أنسان وأحبني لأني صديق. واسيته عندما ظن أن من يحبها لا تحبه لأنه ليس وسيماً. وبحتُ له بأسراري فتشاركنا الحزن والفرح،والسعادة والترح. أخبرتهُ بأحلامي وشاركني بأيامي وواساني بآلامي. هربنا معاً من غضب أهلنا حين علموا أننا غبنا عن دوام الكلية أو حين «سرقنا» سيارة والدي وهو نائم ظهراً لكي تتعلم سياقتها ونحطمها بعد أن صدمناها ! أخترنا معاً ملابسنا لحفلة الكلية وأطلقنا النكات على زملائنا وما يرتدون وأساتذتنا وما يلبسون.
غضب مني كثيراً حين (حرقت) له شعره الكثيف بالسشوار لكن سرعان ما ضحكنا من الموقف مثلما ضحكنا على صديقنا الذي تمزق بناطله فظهرت ملابسه الداخلية التي بدت غريبة! ضحكنا معاً وأطلقنا النكات معاً، ولعبنا معاً ودرسنا معاً وسهرنا معاً وتبادلنا الأحلام معاً وتخرجنا معاً ودخلنا «العسكرية» معاً. جاءني مسرعاً بسيارة «الواز» العسكرية بعد أن انسحبت كتيبته وكتيبتي من جبهة القتال في «ديزفول» لأركب معه بعد أن تقهقر الجيش وأُسر الكثير ومات الكثير وضاقت علينا الدنيا بما رحبت. غضب حين قلت له لا أستطيع ان أترك جنودي في هذا الموقف فصرخ بي قائلاً: «قابل هي قادسية أبوك»!!
لم يزعل مني حين ناقشته وأحرجته في لجنة مناقشة أطروحته للدكتوراه وتقبل مني كل انتقاداتي وملاحظاتي بضحكاته المعهودة وسماحته الممدودة. وحين فرّقتنا الحياة في أماكن متباعدة كنا نتواصل فلا نبتعد ونتذكر فلا ننسى ونتحادث فلا نأسى. يعرف حبي لبصرتنا واشتياقي لشطها وأرضها،وأهلها وأكلها، فيطير ليزورني محملاً ب»فلينة» مليئة ب(الزبيدي والمزلك والبياح والهامور).
تبادل عزيمة
لم تؤثر السنين في مزاحه وقفشاته، ولا قللت من صداقته وحبه ولا خفّضت صوت ضحكاته وبهجت نكاته. وحين فاجأه المرض الخبيث طار من جديد ليلقاني فنتشارك الحزن ونتبادل العزيمة كما تعودنا في الشدائد. حاولت أن أشد عزمه وأنا من يحتاج لمن يعينني على تحمل صدمة مرضه. آثرني على جميع من يحب بلقياه وهو يحتضر، ولم يحرمني من رؤيته وهو في أيامه الأخيرة. لم يرضَ «راضي» أن يفارقني دون توديع ولا أن يؤثر عليّ أحداً وهو يعتزم الرحيل.لم أشعر بسطوة الموت وقربه كما شعرت بها بعد رحيله فقد كان نظير الحياة وشقيق البهجة وصديق البسمة والفرحة. أنعى نفسي وأنا أنعاه وأكتم دمعي وأنا أبكيه. أعزي نفسي بعزائه وأرقب غدي بفنائه وأواصل حياتي آملاً بلقائه. وداعاً أيها الراضي كما عرفته والوفي كما الفته والصديق كما عهدته .
المقصود هو د . راضي عبد الله