الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قصائد تضيئها اللهفة

بواسطة azzaman

قصائد تضيئها اللهفة

نمر سعدي 

 

(1)

دمعةٌ في القلبِ تخفى

ودمي حافٍ وعارِ

ما لهُ في الأرضِ منفى

يا أبا ذرِّ الغفاري

يا لعينينِ كهمسِ البحرِ في قلبي وحيفا

حينَ شعَّتْ في قميصِ الليلِ أزهارُ البراري

*

(2)

كانَ الحلَّاجُ كنرجسةٍ عمياءَ

على ثلجٍ مشتعلٍ مصلوباً فوقَ صليبِ الريحْ

يتنهَّدُ: للرغبةِ ديكٌ أزرقُ فوقَ رمادِ الليلِ يصيحْ

للحبقِ الكحليِّ سماءٌ

للنارِ الخضراءِ أصابعُ

للأشجارِ كما لنساءِ اللهفةِ عشَّاقٌ

للأرضِ شفاهٌ ومدامعُ

للأمطارِ الأولى روحْ

*

(3)

يا مالكَ بنِ الريبِ كيفَ يضيئني معناكَ عن بعدٍ

بسرِّ الماءِ في وجعي المكابرِ؟

آهِ.. كيفَ يصلُّ في قلبي نثاركَ أو غبارُ صدى السنينْ؟

النجمةُ الخضراءُ في جسدي وفوقَ يدي تحطُّ القبرَّاتُ

رؤىً.. قصائدَ.. ذكرياتٍ في الدماءِ ترفُّ

أخيلةً تهبُّ من الخريفِ وأغنياتِ الحاصدينْ

قبلَ اكتمالِ قصيدتي سرقَ الشتاءُ أنوثةَ الأشجارِ..

أو سرقَ الغبارُ حدائقَ العشَّاقِ

في أشعارِ طاغورٍ وليلَ الحالمينْ

لا شيءَ عندي.. لستُ أملكُ أيَّ زنبقةٍ يبوحُ بها الجدارُ

ولا قصائدَ كيْ أهشَّ بها على قلقي الخجولِ

ولستُ أملكُ سيرةً ذاتيَّةً / شعريَّةً للنشرِ في ويكيبيديا

حطبٌ فمي.. ورقٌ خريفيٌّ شفاهي فوقَ هاويتينِ..

روحي كالفراشةِ في شباكِ النارِ...

هل قلتُ الذي يكفي لأكتبَ صمتَ قلبي أو عذابَ دمي ..

لأكتشفَ المسافةَ بينَ ذاكرتي وصلصالِ الحنينْ؟

صادقتُ أنكيدو وعشبَ الليلِ

عشتُ مع الصعاليكِ الذينَ تناثروا

في الحبِّ والأحلامِ والصحراءِ...

جئتُ من الصدى وخرجتُ من ظلِّ الندى

ومن الزنابقِ واللظى والبردِ

من لغةِ البنفسجِ.. من رخامِ الوردِ

من تمثالِ جولييتَ المصابِ برعشةٍ زرقاءَ

من قمرٍ يربِّي الشهدْ

وكتبتُ سونيتاتِ شكسبيرَ

ذقتُ سفرجلَ الأشواقِ يقطرُ من شفاهِ حبيبةٍ

وسياطَ شمسِ الروحِ

صادقتُ الرمالَ.. رقصتُ مع مطر الهوى المجروحْ

*

(4)

يذكِّرني جمالكِ أزميرالدا

ومن صبَّتْ نقيعَ الصابِ شهدا

ومن مدَّت يديها واستمدَّتْ

من الشوكِ الذي يهتاجُ وردا

يذكِّرني عبيرَ الهالِ منها

وطعمَ القبلةِ الأولى وخدَّا

وهمسَ البحرِ في نيسانَ يُخفي

تباريحَ الهوى.. وصلاً وصدَّا

وسرَّ اللهفةِ البيضاءِ تمشي

على وجهي شذىً وندىً وندَّا

كأنكِ من عذاباتي امتدادٌ

وأنكِ كنتِ لي في الأرضِ وعدا

ستنهمرُ النجومُ على حوافي

شفاهكِ مثلما ألقيتُ نردا

أحبُّكِ والجراحُ تقدُّ قلبي

من الأيَّامِ والأحلامِ قدَّا

وحزنُ الروحِ ليسَ لهُ لسانٌ

سوى ممَّا تعدُّ النارُ عدَّا

سأغفو والرياحُ على سريري

من الجمرِ المباحِ تئنُّ صهدا

سأغفو مثلَ مرثيَّاتِ لوركا

إلى الزيتونِ والقمرِ المفدَّى

إلى ليمونةٍ في القلبِ تُهدي

براعمها إلى عينيَّ سُهدا

حرائقها تربُّ دمي وتُرخي

ضفائرها على وجهي المندَّى

كتبتُ قصائدي بالدمعِ.. روحي

تضيءُ جراحُها حيفا ونجدا

مددتُ شعاعَ زفراتِ الليالي

لآخرِ لوعةِ الأيَّامِ مدَّا

رمالُ في فمي وعلى شفاهي

تغنِّي النارُ في قمرٍ تردَّى

وفوقَ الصدرِ صخرٌ من بطاحٍ

لمكَّةَ والضلوعُ تذوبُ وجدا

وتسألني القصائدُ كيفَ ماءُ ال

حنينِ يكونُ مثلَ الصخرِ صلدا؟

وتسألني زليخةُ عن قميصٍ

من الوردِ النديِّ وكيف قُدَّا؟

وهل أغمضتُ أجفاني وقلبي

على حبقِ الرياحِ الخضرِ فردا؟

*

(5)

وطناً من قصائدَ كوني لأكتبَ

كوني دثاري.. هوائي وناري

شتائي وصيفي.. خريفي وعشبَ النجومِ

صدى الريحِ في شجرِ الليلِ

والصوتَ في حجرِ النهرِ

كوني الكمنجةَ والأقحوانةَ

كوني النجومَ البعيدةَ

والأغنياتِ الشريدةَ

حقلَ الفراشاتِ، ظلَّ الخطى، ذكرياتِ الندى

وطناً من زنابقَ كوني

لأركبَ موجَ الحرائقِ

أو أقتفي أثرَ الغيمِ والطيرِ والنهرِ

والريحِ والمطرِ المتواصلِ

حتى أقاصي الغناءْ

وطناً من ندى الصيفِ أو عطرهِ في الشرايينِ كوني

وشمساً خريفيَّةً في الدماءْ

*

(6)

أعانقُ الأشجارَ النحيلةَ وأتركُ على جذوعها قُبلاتي الطائرة

وأنحتُ تمثالَ امرأةٍ من صخرةِ الثلجِ ثمَّ أمسكُ بيدها وأراقصها

فوقَ جمرِ التباريحِ ومرتقى العناقِ في كوكبٍ من غبارِ التعبْ

*

(7)

في عينيَّ كلامٌ كثيرٌ كثيرْ

عندما أحدِّقُ في عينيكِ ستقرأينَ الإلياذةَ والأوديسةَ والإنياذةَ وملحمةَ جلجامشَ وسفرَ التكوينِ

في عينيَّ بحارٌ من المعلَّقاتِ والقصائدِ المبلَّلةِ بأمطارِ نيسانَ

وسفنٌ خضراءُ يرودها سندبادٌ عاطلٌ عن العملِ

في عينيَّ قارَّاتٌ وغاباتٌ ومسافاتٌ وشموسٌ استوائيَّةٌ

وسونيتاتٌ مطويَّةٌ في أعماقِ البحيراتِ والأنهارِ

في عينيَّ صحارى تمتدُّ بلا انتهاءٍ

على كواكبَ تبعدُ عنَّي ملايينَ السنينِ الضوئيَّةْ

*

(��

ليتَ القصائدَ تنمو في الثرى لأرى

ظلَّاً يفكُّ لقمصانِ الشموسِ عرى

ليتَ القصائدَ نارٌ في الشتاءِ لكيْ

يأوي إلى دفئها الأطفالُ والشُعرا

وليتني صرتُ نهراً في الهواءِ جرى

أو نجمةً في مهبِّ الريحِ أو قمرا

سفينةٌ جسدي خضراءُ مشرقةٌ

وشهرزادُ تضيءُ الليلَ خلفَ قرى

عشباً لقافيتي أو وردةً لدمي

كنْ يا خريفَ نسائي.. أو سناً لأرى

*

(9)

لا تغلقي قلبكِ تماماً

اتركي بابهُ موارباً فلا بدَّ من عصفورٍ تائهٍ

يدخلُ فيهِ هارباً من العواصفِ المطريَّةِ.. ولا يخرجُ

لا تغلقي شبَّاككِ تماماً

اتركي منفذاً صغيراً فلا بدَّ من فراشةٍ عطريَّةٍ

تدخلُ فيهِ هاربةً من طيرٍ جارحٍ

(10)

أيتها الريحُ مُرِّي سريعاً على أبجديَّةِ حبِّي المشاكسِ

كيلا تشبَّ الحرائقُ في لغتي بعدَ هذا النهارْ

أيها العشبُ ضمِّد جراحي وكن لي وسادةَ غيمٍ وضوءٍ

وكنْ لي دثاراً وناراً تعانقُ سيِّدةَ الاخضرارْ

أيها الماءُ لا تمتحنْ قلقي أو تقارنَ ما ظلَّ من شغفي

بندى الصيفِ أو بصباحِ الخريفِ

وقبَّرةٍ في قصائدِ جون كيتسَ موشومةٍ بالبكاءْ

أيهذا الهواءُ المراوغُ كنْ شجراً عالياً عالياً لحنينِ النساءْ

أيها الشوقُ كنْ جمرةً في الضلوعِ

وكنْ حطباً في ليالي الشتاءْ

*

(11)

سيقودني حدسُ الغناءِ لأوَّلِ الأشجارِ

لو أغفتْ يدايَ على نباتاتِ الطريقِ

أو اختفى قمرُ السنابلِ والحليبِ من السماءِ

أو اقتفى ثمرَ الغوايةِ في شفاهِ غزالةِ الأنهارِ

أو أثرَ الفراشةِ في شفاهي

أو وصايا الحنطةِ السمراءِ من مرجِ بنِ عامرَ

أو زنابقَ في الجليلِ من القطيفةِ والمياهِ

فيا إلهي يا إلهي

كنْ معي في ظلمةِ الكهفِ الأخيرةِ

كنْ على قلبي المعذَّبِ

حينما أمشي على موجٍ

وأكتبُ ثمَّ أشطبُ

أو أنادي في الدجى والزمهريرِ عليكَ

كنْ في القلبِ حينَ تخضُّهُ الريحُ الحنونُ

وحينما تمشي بهِ الأنهارُ حتى آخرِ الدنيا..

إلى أقصى متاهِ

حينما ينحلُّ صوتُ الريحِ في روحي

كنجمٍ حائرٍ أو صرخةِ الضوءِ الأخيرةِ

أو صدى البلَّورِ ما بينَ التلاشي والتماهي

*

(12)

شاعرٌ يحلمُ الآنَ بالكحلِ أو بالأكفِّ المحنَّاةِ

أو يتعثَّرُ ليلاً بزفرتهِ في الطريقِ

فراديسهُ ضيَّعتهُ.. رثاهُ غبارُ الحريقِ

فمن يمسحُ الدمعَ عن صوتهِ المتشظِّي؟

ومن يغسلُ الحزنَ في دمهِ بالندى والعقيقِ؟

أما آنَ للنهرِ أن ينثني؟

وأن ينحني جبلُ الغيمِ حتَّى تمرَّ طيورٌ مهاجرةٌ

في بداياتِ نوفمبرٍ لسرابٍ سحيقِ؟

أما آنَ للنائمِ الحلوِ أن يستفيقَ ويمشي على الماءِ

من حبقٍ ساهرٍ في الجليلِ إلى ما تربِّي حقولُ الندى

من براعمَ أو حنطةٍ في غنائي؟

وغرناطةُ الروحِ في القلبِ تشعلُ ليلَ قناديلها

وتلمعُ صرختها في دمائي

*

(13)

جسدي أنَّةُ أشجارٍ

روحي ورقةْ

من ضوءِ الشمسِ

مصبُّ الأنهارِ الكبرى وشعاعٌ في الأرضِ

شفاهي وردةُ آسٍ محترقةْ

جسدي غمغمةٌ في الليلِ المشرقِ

قنطرةٌ تعبرها الأقمارُ القمحيَّةُ والريحُ القلقةْ

*

(14)

اللهفةُ امرأةٌ تنادي في مزاميرِ الرياحِ عليكَ: عُدْ لي من أقاصي الأرضِ، كنْ شمسي وكنْ قمري وكنْ شجرَ الحديقةِ والقصيدةَ، كيْ أكونَ المرأةَ المرآةَ، أو ضوءَ الفراشةِ في الظلامِ، وكيْ أكونَ الزنبقَ العاري وبنتَ الياسمينِ الأبيضِ الرقراقِ، أختَ سفرجلاتِ الليلِ، بالوجدِ احترقتُ وبالحنينِ، سفينةً رمليَّةً وسليلةَ الماءِ الحزينِ وصوتِ موجِ البحرِ، نورسةَ الأغاني والسنينِ، اللهفةُ امرأةٌ تمرُّ على شفاهي نسمةً، تنهيدةً أو زفرةً ناريَّةً منقادةً بالحدسِ أو بالهمسِ حتى آخرِ الرعشاتِ في الدمِ والحرائقِ في العيونْ

*

(15)

المرأةُ / القصيدةُ / الكأسُ الحليبيَّةُ / عطرُ الطلعِ / سرُّ الماءِ / رغبةُ اخضرارِ الغيمِ في نيسانَ / طعمُ القبلةِ الأولى / أنوثةُ الندى وشجرِ الخريفِ.. جاءَ تترٌ على جناحِ الريحِ في الليلِ إلى مخدعها فسرقوا نرجسها وقبسوا جمرتها وأكلوا وردتها وسكبوا القارَ على سمائها في الليلةِ المنعتقةْ

تطلعُ من أعماقها البحريَّةِ الخضراءِ شمسٌ غضَّةٌ فضيَّةٌ بحلمها مغرورقةْ

صديقةُ الريحِ وسرُّ الورقةْ

تشعُّ في بريَّةِ القلبِ وفي أصابعِ الشتاءِ أو تطلعُ من قاعِ رمادِ الماءِ والقصائدِ المحترقةْ

أرفعها نخبَ حنينٍ لشفاهِ النارِ أو كصخرةٍ في الزمنِ المخنَّثِ الأخيرِ أو كزفرةِ الندى من القاعِ إلى القمَّةِ أو من جسدِ الماءِ إلى أقصى شغافِ الرقرقةْ

سيزيفُ لن يموتَ والفراشةُ الصفراءُ في قلبي.. وقلبي شرنقةْ

*

(16)

قصائدي ذرُّ ريحٍ في الحياةِ وأحلامي

رمادٌ وهذي لعنةُ الشُعرا

حرثتُ في البحرِ واستمطرتُ أخيلةً

من السرابِ الذي سمَّيتهُ ثمرا

وكنتُ غنَّيتُ في الطاحونِ أغنيةً

صارتْ هواءً.. وماءً يابساً.. حجرا

كأنَّ جلجلتي عمياءُ.. يا لدمي

فيها يعانقُ ظلَّ الريحِ مستعرا

أحرقتُ شمعةَ قلبي في الحياةِ سدىً

لنسوةٍ قلبهنَّ الفظُّ ليسَ يرى

حبِّي الذي كانَ للنارِ الحنونِ فماً

وللنسيمِ فراشاتٍ ودربَ سُرى

وللحنينِ قناعاً من ندىً غزلتْ

خيوطهُ شمسُ آبٍ مهجةً وعُرى

وزفرةً في الليالي.. ضحكةً.. عبقاً

ولهفةً في مهبِّ الشوقِ أو مطرا

تيهَ القصيدةِ في أعلى البحارِ وفي الصحراءِ

قافيةً.. رملاً.. صدىً.. شجرا

حرائقَ الماءِ والوردِ الحزينِ وأنهارَ الزنابقِ

أو غيماً وراءَ ذرى

أتيهُ في المطرِ الصيفيِّ تحملني

ريحُ الكمنجاتِ ظلَّاً أو دخانَ قرى

أتيهُ في آخرِ الأبياتِ.. يلمعُ في

عينيَّ دمعٌ خفيفٌ يشعلُ القمرا

يا روحَ شمشونَ تهذي في الظلامِ وفي الريحِ

الحرونِ تهزُّ القلبَ غصنَ ثرى:

كلُّ النساءِ أفاعٍ ما من امرأةٍ

ضمَّت إلى قلبها قلبي فما انكسرا

شفاهها كرزٌ شهدٌ يراودني

عن قمحها المشتهى والصدرُ كمَّثرى

أنا الحياديُّ حزني السرمديُّ غواياتٌ

تضيءُ الصدى والماءَ والغجرا

أنا السرابيُّ يا هذا الزمانُ وأحلامي

جهنَّمُ من سمَّيتهم بشرا

فكنْ لزنبقتي يا ليلُ آنيةً

وكن لأغنيتي أو نبضها وترا

وكنْ لرملِ فمي ماءً.. وأخيلةً

للقلبِ.. والحبقَ البيتيَّ والسهرا

*

(17)

للعشبِ قافيتي وللأشجار أغنيتي وللقمرِ الخريفيِّ البعيدِ خطايَ، للمطرِ الوحيدِ قناعُ وجهي.. جئتُ من طوقِ الحمامةِ بالنشيدِ، رسمتُ وجهي في بحيراتِ الأساطيرِ القديمةِ، طفتُ مع جلجامشِ الأبديِّ حولَ مدائنِ العشقِ التي وضعوا النجومَ على مدى أسوارها، وحملتُ ريشةَ طائرٍ للشمسِ من أقصى غيابِ الليلِ.. من قلبي تمرُّ نوارسُ الكلماتِ والريحُ الأخيرةُ والغزالاتُ التي خلَّفتها في نصِّ لوركا أمسِ تركضُ في بساتينِ الضبابِ وفي القصائدِ أو مزاميرِ النساءِ المتعباتِ من التفاصيلِ الصغيرةِ والهمومِ ومن وصايا الحُبِّ والمتذمِّراتِ من انعكاساتِ الجمالِ على مرايا الماءِ أو من شوقهنَّ إلى الصدى والمستحيلِ أو الحلولِ بظلِّ أشجارِ الكنايةِ أو غيومِ الليلِ.. جئتُ من السرابِ، وتهتُ في الصحراءِ.. حتى آخر الكلماتِ.. حتى أوَّلِ الرؤيا وصمتِ القلبِ.. حتى الشعلةِ الزرقاءِ في جسدٍ ترمِّمهُ غواياتُ الصهيلْ

*

(18)

الصمتُ أغنيةُ الطريقِ، الصمتُ وردةُ أغنياتي، زرقةٌ عمياءُ في فجرٍ خريفيِّ الضبابِ، الليلُ إذ تتفتَّحُ الروحُ الغريبةُ فيهِ، حقلٌ واسعٌ تلهو فراشاتُ النهارِ بهِ، سأمحو ما كتبتُ، سأشطبُ الآنَ القصيدةَ، فالقصيدةُ لا تقولُ الصدقَ في هذا الزمانِ الوغدِ، أو هيَ ذرُّ ملحٍ فوقَ جرحِ الروحِ أو رشُّ الرذاذِ السكريِّ على المنونِ، هيَ الكتابةُ كالكآبةِ حينما في البحرِ تحرثُ، حينما ترمي الجواهرَ للأفاعي أو تغنِّي للذئابِ، قصيدتي حجرٌ على قلبي ينامُ، قصيدتي مطرٌ أنا فيهِ الشريدُ، قصيدتي وترٌ من الدمعِ النظيفِ، قصيدتي ما يحملُ المشتاقُ للمشتاقِ، ماءُ الحزنِ، أوجاعُ السنابلِ يا إلهي، زفرةُ النارِ الأخيرةُ في شفاهي، حنطتي والصيفُ والنعناعُ والقمرُ الحزيرانيُّ في قاعِ المياهِ، فيا إلهي امسح على قلبِ الحزانى، لا تدعْ فيزياءَ هذا الكونِ تحكمُ عالمَ الملكوتِ، وحدي يا إلهي في الظلامِ أشفُّ من قلقي وحزني كارتعاشاتِ النسيمِ على حفيفِ أنينِ روحي، كنتُ أنجو بالحنينِ أو القصيدةِ كلَّما اشتعلتْ زنابقُ في سماواتِ الجليلِ وفي جروحي

*

(19)

أنتِ الصيَّادُ اليقظُ وأنا آخر طيور السكونك

ريشي جميلٌ ولدموعي رائحةُ مطرٍ وعطرٍ استجديكِ بها للنجاةِ

أنتِ جيتارةٌ من غيمِ العطشِ

وأنا الوترُ المائيُّ المتشرِّدُ في صحراءِ العالمِ

*

(20)

مدِّي يديكِ فمنكِ القلبُ أوَّاهُ والثغرُ في ملكوتِ العاجِ تيَّاهُ

حبيبتي لوعةُ الأيام تجلدني والريحُ تعوي وغيري في الهوى تاهوا

الشَعرُ حقلُ شذىً في الليلِ يحملني إلى شتاءٍ كومضِ الحلمِ عشناهُ

أحتاجُ خصركِ أو موجَ الزنابقِ في بحرٍ من الرملِ فيهِ الشوقُ أمواهُ

أحتاجُ صدركِ لو أغفو عليهِ كما تغفو طيورُ صدىً كنَّا أضعناهُ

وكلَّما أتمرأى فيكِ ضاعفني نهرُ الحنينِ وصبَّتني مراياهُ

مدِّي يديكِ فعمري كلُّهُ تعبٌ وعانقيني فمنكِ القلبُ أوَّاهُ

*

(21)

لن يأتي غودو في المساءِ ولا الصباحِ ولا الظهيرةِ، أنتَ وحدكَ في مهبِّ الريحِ، وحدكَ كالسرابِ، كحيرةِ النجمِ الشريدِ، كريشةِ العنقاءِ، كالمعنى وكالنهرِ البعيدِ، وكالكمنجةِ في سريرةِ آخرِ الغجرِ الغنائيِّينَ، لن يأتي سوى سربِ البرابرةِ الذي تناثروا في الأرض، ماذا بالشفاهِ على المياهِ تخطُّ؟ ماذا بالرمادِ على بنفسجةِ البلادِ اليومَ تكتبُ؟ والبرابرةُ الذينَ تقاسموا أثوابَ روحكَ كالذئابِ المدلهمَّةِ فوقَ مصطبةِ الظلامِ يطاردونَ الظبيةَ البيضاءَ في صحراءِ قلبكَ، يشطبونَ دمَ النهارِ على الغيومِ، ويمسحونَ خطى قصيدتكَ الأخيرةِ من على وجهِ البحيرةِ، أو على الرملِ النظيفِ، فهل ترى أثرَ البرابرةِ الرماديِّينَ في الأشياءِ.. في ورقِ الخريفِ وفي مياهِ البئرِ، في عبقِ النسيمِ، وفي حفيفِ الوردِ، في غبشِ المساءِ، وفي هواءِ البحرِ؟ لن تأتي القصيدةُ، لن يجيءَ المستحيلُ، ولن تغنِّي في صباحٍ ما، ستنقصكَ المرايا أو إشاراتُ الحنينِ، وكلُّ ما في الأرضِ من شغفٍ، وما في الأبجديَّاتِ القديمةِ من بياض اللهفةِ الأولى وعاصفةِ الحريرِ، وما على الكلماتِ من وهَجِ الحقيقةِ والخيالِ، وما يضيءُ الذكرياتِ أو انطفاءَ الحلمِ والأزهارِ فيكَ إلى الأبدْ

*


مشاهدات 49
الكاتب نمر سعدي 
أضيف 2025/03/10 - 3:42 PM
آخر تحديث 2025/03/11 - 4:30 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 101 الشهر 5398 الكلي 10466347
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/3/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير