الحمامة البيضاء توحي بأمل التصالح مع الزعيم
تدهور العلاقة بين قاسم والشيوعيين
رياض شابا
كانَ موسمُ قطافِ باقلاء طرية يسيلُ لمرآها الّلعاب. خضراء بلون تلك الكروم المتاخمة لـ(دير السيدة “مريم العذراء” ناطرة الزروع). نقطع الطريقَ اليه بزمنٍ لا يتجاوزُ العشرين دقيقةً مشياً، ما لَمْ تؤخّرنا وِقْفاتٌ يَحتدِم فيها النقاش، بشأن أوضاعٍ مُرتبكةٍ، معقدةٍ ومعروفةٍ، سادت البلادَ في المدّة التي سبقت الثامن من شباط 1963، إثْرَ تدهور العلاقة بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين.
سماءٌ مكفهرةٌ تشبه أرواحَ المتجادلين أنفسَهم. كلُّ واحدٍ يحلّلُ الأمرَ حَسْبَ رؤاه وقناعاته وتوقعّاتهِ، ولا نحظى بنتيجةٍ تٌذكر مِثْلِ كلِّ المرَّاتِ السابقةِ، فنؤجِّلُ الكلامَ، ما إنْ ندركَ المكانَ الذي سنُقيمُ فيه مهرجانَنا الرياضيَّ المنتظرَ لطلبة الثانوية، فوق السَّهلِ الَّذي شُيِّدَ عليه أكبرُ أديرةِ الشرق الأوسط سنة 1858.
وما إنْ فرغنا، حتى انصرفَ الكثيرون الى بيوتهم، ما عدا نفر قليل لا يتعدى العشرة، تخلَّفنا للمّ المعدات المستخدمة في ألعابِ الساحة والميدان من كراتٍ وقرصِ رميٍ ورمحٍ وحيدين وحلقةٍ تسمحُ بالمرور داخلها قفزاً بشكل أفقي،ٌ كلِّفْتُ بمسك أحدِ طرفيْ الحبلِ الذي يربطها، بالإضافة الى عددٍ من أعلام العراق الجمهوري التي حملناها معنا.
وبينما نحن نغادرُ، إذْ بصوتِ أحدِ الرُهْبان (ينخانا) طالباً العون لإكمال جَنْي محصول ذلك النهار، قبل هطول مطرٍ آتٍ لا محالة، تُنبئُ به غيومٌ رماديةٌ داكنةٌ، انعقدت في كبدِ سماءٍ زرقاء كانت مرصَّعة بخيوط الشمس قبل دقائق.
و.. (يا الله شباب..)..
ولَمْ يستغرق الأمرُ أكثرَ من ساعةٍ، أنجزنا خلالَها المهمةَ حَسْبَ توجيهاتِ راهبٍ سَمْحٍ، نسيتُ اسمه بعد كل هذه العقود. كلُّ راهبٍ نناديه (أخونا). قد يكون (اخونا شمعون) او (اخونا حنا) او (اخونا برعيتا)، أظرف راهبٍ التقيتُه في حياتي من بين كلِّ الأديرة العراقية التي زرتها. مٌنَكِتٌ من الدرجة الأولى، حتى هيئته توحي اليك بأنك أمام كوميدي محترف، ولِضحكتِهِ رنينٌ خاصٌ. يجيد الزَجَلَ وتنظيمَ الأبيات على أيِّ اسم يُذكَر أمامه، بكلدانيةٍ نقيّة تشبه نقاء صوتٍ ينادينا ويُصِّرُ على استبقائنا لغداءٍ متأخر: (لن تذهبوا.. هذه تعليمات رئيس الدير أيضاً).
في مطعم الرهبان الذي يلحق به مطبخٌ صغيرٌ، جلسنا حول مائدةٍ خشبيةٍ طويلةٍ، تَنْطِقُ بالكثير من معاني الزُّهدِ الخالية مِنْ مظاهر قد يعيشُها بعضُنا في حياته اليوية. لا شِوَك هنا أو أقداح زجاج.
لا لحم دائما ولا رز، بل برغل مطبوخ بالشيرك أحياناً. و(منيو) اليوم (حبيَّة) احتوتها اطباقٌ معدنيةٌ كبيرةٌ، وأخرى لمرقةِ باقلّاء طازجة مثل التي جنيناها قبل قليل. تَطْغَى عليها حموضةٌ لذيذةٌ، مطبوخةٌ بمعجون طماطةٍ من صنع الرهبان أنفسِهم، وبصلٍ أخضرَ يفتحُ شهيَّتنا: (ما أجملَ اشتراكية الرهبان، هنا البروليتاريا)، نهمس فيما بيننا ضاحكين في جوٍ جعل أحدَ الزملاء يشاكس راهباً بطلبِ كأسِ نبيذٍ معتَّقٍ: ( الطقسُ باردٌ، أخونا. هلّا انجدتنا بشيء يدفئُ عظامنا؟!!)
طريق العودة
وتَدَفَّأت العظامُ أخيراً، ولكنْ بفعلِ هرولةٍ في طريق العودة، بعدما باغَتَنَا مطرٌ لا يمنعنا من التطلُّع يميناً، فوق، حيث دير (الربان هرمزد) المُشيَّد عام 640 م، وكأنه قطعةٌ صخريةٌ منحوتةٌ على سفح جبل القوش النابت هنا منذ أزمان سحيقة. وعلى أطراف الصَّرح الأثريِّ المدهش، عشراتُ الصوامعِ التي صنعَ الرهبانُ معظمَها بأنفسهم، شاهدةٌ على قرونٍ من التنسّكِ والتعبّد والتفرّغ الى الرَبِّ.
قال أحدُهم: (للأسف لن نتمكن من الذهاب هنالك اليوم.).
كان من عادتنا أنْ نتسلّق الجبل في أيِّ وقتٍ من نهارات السنة للتبرُّك والرياضة وشرب مياه الينابيع والآبار الصافية. لكنَّ زياراتٍ قام بها أهلُ البلدة وزوارُها في زمن من نهاية الخمسينات وبعدها بقليل، لم تكن لأداءِ طقوسٍ ما، بل لمشاهدة لوحةٍ معلّقةٍ في ديوان رئيس الدير، رسمها الاخير بنفسه للزعيم عبد الكريم قاسم ببزته العسكرية جالسا وعلى جنب منه أو فوق كتفه حمامة بيضاء.
ظلت تلك الحمامة موحيةً لكثيرين، لم يفقدوا الأمل في أن تتصلح الامور مع الزعيم، رغم كل ما جرى بعد ذلك التاريخ. وكنا نحن طلبة الثانوية نمارس أنشطتنا بروح تغذيها دماء الشباب، وتشجعنا على الاستمرار بثقةٍ، رغم ما يشوب الاجواء من قلق وتوتر وحذر.
ومع بداية شتاء 1962- 1963 كنا نتهيّأ لمهرجان من نوع آخر، فني ثقافي باشراف استاذ اللغة الانجليزية الرائع بهنام وديع اوغسطين المنقول الى القوش مع مدرسين آخرين، قيل إنَّ الهدف كان إبعادهم من المدن. كان الاستاذ بهنام وهو أديب جميل، يتصرف بروحية المنتج والمخرج برغم امكاناتنا البسيطة.
أسندَ إليَّ دوراً في مسرحية (البخيل) لمولير.
نُجري البروفات يومياً بعد الدوام، واتمرن على أغنية لفريد الاطرش سيصاحبني بها موسيقياً الاستاذان الشقيقان وديع وحميد حنا كجو ومدرس او معلم اسمه طلال.. مع فقرات أخرى لم تر النور بعد صبيحة الثامن من شباط، حيث بدا زمن جديد، انطفأ فيه كل شيء، ما خلا ذكريات طريق الدير.