زمان كل يوم ( 17 )
كاترين دينوف وعشقيات ملاجئ الحرب
نعيم عبد مهلهل
أتذكر من أساطير الخوف من الحروب احداث كثيرة والاغرب مافيها أن بطلات تلك الأحداث من العشيقات اللائي يغامرن من اجل غرام قرب مواضع المدافع والدبابات ، حيث واحد من أقسى وأكثر جبهات الحرب رعباً ، وأكثرها وضوحاً لمديات القناصين ومدافع الهاون ، وتسمى بحيرة الأسماك . كنت هناك أعيش الذعر الروحي؛ لذلك الخوف أن يكون المنطاد الذي أتمنى السفر فيه إلى باريس أو روما أو دلمون؛ ليس سوى هذا النعش الخشبي الذي يلفُّوه بعلم.
كنت وقتها أعلق في ملجئي صوراً لممثلات السينما كتعويذة أطْردُ فيها دقة الإصابة التي يحسنها القناص ورامي قاذفة (الآر بي جي 7) ، ومن بين هذه الصور صورة للساحرة كاترين دينوف ، وذات يوم دخل إلى ملجئي آمرُ السرية فأنتبه إلى الصور ، وربّما وحدها كاترين بنظرتها المتوحشة الفاتنة من جعلت الضابط لا يفكر بإنزال العقوبة عليّ ، كوننا في حرب وليس في قاعة سينما.
وأظنّ أن عينيها هما مَنْ دفعه في الأيام القادمة إلى الإقدام على فعل مجنون لم يُقدم عليه أي جندي في أي حرب. عندما أقنع عشيقته بأن تتنكر بملابس جندي وتأتي معه إلى الحجابات المتقدمة ، وتبقى معه في ملجئه دون أن يعلم بها أحد.
ذات يوم أتت مفرزة استخبارات وداهمت ملجأ آمر السرية ، وكان برتبة نقيب ، وألقوا القبض على عشيقته ، وكانت ممدَّدة على سرير نصف عارية. أما هو فقد اقتادوه إلى مقر الفرقة ، وتمت محاكمته وطردُه من الجيش مع السجن لسَنةٍ واحدةً ، ولا أعرف ماذا جرى لعشيقته ، ووقتها ذعرت أن يداهموا كلّ الملاجئ ويكتشفوا الصور ، فأساق مخفوراً إلى السجن ، وبعد حين عرفنا أن مراسل الآمر - الجندي الذي يقوم بخدمته - هو من وشى على آمره ، ولكنّي كنت دائماً أنظر إلى النظرات الساحرة لعيون دينوف في الصّورة وأهمس لها : حتماً أنت من وشيت به.
بعد مرور سنوات ، انتهت الحرب وذات ليلة أتت إليّ أطياف تلك الحكاية ، ودونت الاشتياق إليها في نصٍّ يضع دينوف والمدينة التي اغتربت فيها في شهية واحدة ، قبل أن أطلق عليها لقب الآلهة الفرنسية القبيحة. وقتها كانت كاترين وحدها في الصّورة ، ولم أكن بعد قد عثرت لها على تلك الصّورة السريالية ، وهي تنتظر من فرانسواز ساغان إشعال سيكارتها (الديموريه) ، وهي ذات ماركة السكائر التي كان الحانوت العسكري يبيعها على الجنود في جبهة بحيرة الأسماك ، وبعيداً عن الضابط في مدينة الناصرية كانت توجد أربع سينمات؛ الأندلس الصيفي والشتوي. والبطحاء الشتوي والصيفي. واليوم البنايات الأربعة فقدْنَ سحر شاشات العرض فهُدمت البطحاء الصيفي والشتوي. والأندلس الشتوي تحولت إلى مخازن وورش نجارة والصيفي أصبحت مرآباً للسيارات.
وعودة للزمن الذهبي لقاعات العرض السينمائي ، كانت تلك الأمكنة واحة خصبة لسياحة الخيال ، وكتابة القصص والخواطر ورسائل الحب ، ومن يريد أن يمتلئ بالشوق إلى أنثى يتمناها ويتخيلها يذهب ليشاهد فلماً رومانسياً هندياً ، أو يتمتعُ بشهوة عينيه مع جسد الفاتنة هند رستم أو برجيت باردو أو راكيل وولش.
كانت الدهشة تصبغنا بأشياء كثيرة ، ومع الأفلام الملونة نَمَتْ فينا هواجس جديدة لها طعمٌ آخرُ ، حملته الموجة الجديدة لوجوه الممثلات ، وربّما السينما الفرنسية أخذت منّا الكثير من سحر التسمُّر أمام شاشات السينما ، وقراءة خارطة تفاصيل الجمال في لذة الزبدة الفرنسية التي كانت مملوءة بصحن ، وملتصقة على خد ممثلة ساحرة اسمها كاترين دينوف.
كان هذا الوصف يضعه صديق لنا هام حبّاً بها ، وكان يقول : أجمل الطيور تلك التي تحلق في سماء عيون كاترين دينوف ، وفي عيون عشيقة آمر السرية والتي كانت وقتها تضع بين شفتيها سيكارة ديموريه .