الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حكم الجغرافيا.. هل نحن أسرى المكان أم أبناء العولمة ؟

بواسطة azzaman

حكم الجغرافيا.. هل نحن أسرى المكان أم أبناء العولمة ؟

منتصر صباح الحسناوي

 

حُكم الجغرافيا لم يكن يوماً مجردَ حدودٍ يرسمُها الإنسان على الخرائط ولم يكن مجردَ تضاريس تشكلت عبر الزمن بل كان دائماً سلطة خفية تصوغ الأفكار وتوجّه العقول وتزرع القناعات هكذا تعلمت من دراستي التي لا أزال اعتقد جداً أنها الأشمل، فمعرفةُ الجغرافية لا تتعلق بجبلٍ او سهلٍ فقط،

بل منظمومة علاقات لا متناهية بين الأرض وما يعلوها من الحياة بتفاصيلها ،  فحيث يولدُ الإنسان وينشأ يجد نفسه محاطاً بمنظومةٍ فكرية تصوغه قبل أن يكون قادراً على مساءلتها.

يكبر الطفل وهو يستمع إلى حكايات عائلته ويرى طقوساً مجتمعهً ويتشرب قيّمه دون أن يدركَ أن كلَّ ما يراه ليس بالضرورة الحقيقة المطلقة بل هو فقط الحقيقة التي توافقَ عليها من حوله ومن سبقوه في المكان نفسه

طريقة شفهية

على مدار التاريخ شَكّلت الجغرافيا سجناً غيرَ مرئيٍ للأفكار فقديماً لم يكن الإنسان يعرف سوى ما يدور في محيطه الضيق كانت المعارف تنتقلُ عبر الأجيال بطريقة شفهية أو محدودة بالكتب والمخطوطات التي لم تكن متاحة إلا لقلةٍ قليلة، كان الانتماء للمكان انتماءً للأفكار والتقاليد والقيّم التي سادت فيه ومن يخرج عنها يُنظر إليه كغريب أو متمرد أو حتى كخائن، ولكن مع تقدّم الزمن بدأت هذه الحدود تتشقق شيئاً فشيئاً مع الرحلات والأسفار ومع التبادلات التجارية والثقافية أخذ الناس يكتشفون أن هناك عوالم أخرى وأفكار مغايرة وأن ما اعتبروه حقيقة ثابتة قد يكون مجرد وجهة نظر تشكّلت بفعل البيئة وليس بفعل اليقين.

ثم جاءت العولمة التي قلبت الموازين أو هكذا بدا الأمر في البداية فمع ظهور الإنترنت وتطور وسائل الاتصال صار بإمكان أي شخص أن يرى ويسمع ويقرأ عن مجتمعاتٍ وأفكار لم يكن يتخيل وجودها من قبل، بدا وكأن حكم الجغرافيا قد انهار وأن الإنسان أصبح حراً في تشكيل قناعاته بعيداً عن تأثير مجتمعه الأول لكن الحقيقة لم تكن بهذه البساطة فرغم أن التكنولوجيا فتحت الأبواب إلا أنها خلقت قيوداً جديدة بشكل مختلف فقد أتاحت للإنسان الوصول إلى المعرفة لكنها أيضاً قدمت له المعرفة التي يرغب في سماعها فقط صنعت له فقاعته الفكرية الخاصة إذ لا يرى إلا ما يعزز قناعاته وما يتوافق مع أفكاره المسبقة.

باتت وسائل التواصل الاجتماعي مثالاً صارخاً لهذا التناقض فهي في ظاهرها مساحة مفتوحة للنقاش والتعددية لكنها في باطنها تعمل وفق خوارزميات تجعل كل فرد يعيش داخل عالمه الخاص يرى فقط ما يتوافق مع ميوله الفكرية ويبتعد شيئاً فشيئاً عن أي صوتٍ مختلف.  في السابق كانت العائلةُ والمجتمعُ المحلي هما من يتحكمان في تشكيل الأفكار واليوم تقوم التكنولوجيا بالمهمة نفسها ولكن بأسلوبٍ أكثر دهاءً وأكثر إقناعاً فبدلاً من أن يبحث الإنسان عن الحقيقة في فضاء واسع يجد نفسه محاصراً داخل دائرة ضيقة من الأفكار التي يكررها له الإنترنت حتى يصدق أنه يملك الحقيقة المطلقة.

وعلى الرغم من كل هذا لا يزال تأثير العائلة والمجتمع أقوى مما نظنُّ فحتى مع كل هذا الانفتاح يبقى الإنسان متأثراً بتنشئته الأولى إذ يظل عقله محمّلاً بتلك القيم والمعتقدات التي زُرعت فيه منذ الصغر وحين يواجه أفكاراً جديدة قد يتقبلها ظاهرياً لكنه في داخله يقيسها دوماً بمعاييره القديمة وقد يقاومها إن شعرَ بأنها تهددُ معتقداته أو هويته أو استقراره النفسي فالعولمة لم تمحُ تأثير الجغرافيا لكنها جعلته أكثر تعقيداً وأكثر خفاءً .

لم يعدْ الإنسان يدرك بسهولة أن ما يؤمن به قد يكون مجرد نتاجٍ لظروف نشأته وليس لحقيقةٍ كونية مطلقة

وفي هذا السياق لا يمكن إغفال الدور العميق الذي تلعبه الجغرافيا في تشكيل الهوية الفردية والجمعية فالإنسان يكتسب من بيئته ليس فقط لغةً ولهجةً بل منظومةٌ متكاملةٌ من المعتقدات والتقاليد والسلوكيات التي تتغلغل في ذاته لتشكل جزءاً  من هويته الدينية والاجتماعية والوطنية فالطفل الذي يُولد في مجتمعٍ يتبنى ديناً معيناً سينشأ غالباً وفق تعاليمه وستصبح تلك التعاليم جزءاً من منظومته الأخلاقية دون أن يختارها بوعيٍ منه وكذلك الحال مع العادات والتقاليد التي تصبح جزءاً  من سلوكه اليومي حتى وإن لم يكن يدرك أصولها أو أسبابها.

انتماء اولي

وفي المجتمعات التي تتسم بهويةٍ وطنيةٍ قوية يصبحُ الانتماء للوطن امتدادًا لهذا الانتماء الأولي إذ يُغرس في الفرد منذ صغره أن الأرض التي نشأ عليها ليست مجرد مساحة جغرافية بل هي ذاكرة وتاريخ وانتماء.   وفي المجتمعات التقليدية كانت هويةُ المكان تُحدد بشكلٍ واضح من هو «الأصيل» ومن هو «الغريب» أما اليوم ومع تزايد موجات الهجرة والانتقال بين الثقافات أصبحَ السؤال عن الهوية أكثر تعقيداً فهل يظل الإنسان حاملاً  لهوية مكانه الأول أينما ذهب أم أنه يكتسب هوية جديدة مع تغير موقعه الجغرافي وهل يمكن أن يكون للإنسان أكثر من هوية واحدة دون أن يفقد إحساسه بالانتماء أم أن العولمة جعلت الهوية ذات طابعٍ متحرك لا يرتبطُ بمكانٍ محدد.  اليوم يجد الإنسان نفسه في معركة غير معلنة بين الانفتاح والتشبث الموروث، البعضُ يختار الانغلاق بدعوى الحفاظ على الهوية والبعض الآخر ينجرفُ وراءَ كلِّ ما هو جديد ظناً منه أن التقدم يعني القطيعة مع الماضي لكن بين هذين النقيضين هناك طريق ثالث هو طريق «الوعي»، طريق من يفهم أن الانتماء للجذور لا يعني العيش داخل قوقعة وأن الانفتاح لا يعني التخلي عن الذات بل يعني القدرة على النظر إلى الأمور بعين ناقدة بعيداً عن تحيزات النشأة ومؤثرات المكان.   وهكذا يظلُّ حكم الجغرافيا قائماً لكنه لم يعد مطلقاً كما كان في السابق بل أصبح تحدّياً يتطلب وعياً وجهداً للتغلب عليه فالإنسان الذي يريد أن يكون حراً فكرياً لا يكفيه أن يملك وسائل المعرفة بل عليه أن يمتلك الشجاعة ليبحث عن الحقيقة خارج حدود ما نشأ عليه وأن يكون مستعداً للتساؤل حتى عن تلك الأفكار التي طالما اعتقد أنها مسلمات، فالمعرفة الحقيقية تبدأ عندما يدركُ الإنسان أن كل ما تلّقاه منذ صغره ليس بالضرورة الحقيقة الكاملة بل مجردُ جزءٍ من صورة أوسع قد لا يكتمل فهمها إلا إذا امتلك الجرأة على رؤية ما وراء حدود جغرافيته الأولى مع احترام هويته وتعزيزها دون التطرف.


مشاهدات 34
الكاتب منتصر صباح الحسناوي
أضيف 2025/02/03 - 4:28 PM
آخر تحديث 2025/02/04 - 2:37 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 70 الشهر 1687 الكلي 10397058
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/2/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير