الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
غانم   بابان .. ما أقسى النسيان

بواسطة azzaman

غانم   بابان .. ما أقسى النسيان

أبرز محطّات المنافي في أسفار التيه العراقي

 

صباح المندلاوي

 

قلة قليلة من معارفه واصدقائه يعرفون بأنه من مواليد الحلة عام 1950 – حي الاكراد- ومن اصول كردية تعود الى امارة بابان في كردستان ووالدته اسمها باكيزه.

لا حقا تنتقل عائلته الى بغداد وتستقر في مدينة الاعظمية يدرس الابتدائية في مدرسة المثنى يوم كان مديرها الاستاذ خالد الحمداني، بعدها يلتحق بمتوسطة الاندلس ويتخرج منها بنجاح.

يدخل معهد الفنون الجميلة – قسم المسرح – في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، يتأثر باساتذته الرواد وينهل من معارفهم ومهاراتهم، يطالع كثيرا وبشغف، يحلم ان يكون ممثلا مشهورا ولامعا.. يحاول ان يقترب من الاختصاصات المتنوعة في المسرح .. يتابع تنفيذ الانارة والموسيقى ويختبر قدراته في المكياج.

يشارك في الكثير من الاعمال المسرحية التي تقدم في اطار المعهد، ومنها «هاملت» لشكسبير اخراج حميد محمد جواد و «ديبا الساكن على التل» اخراج الاستاذ عبد الاله كمال الدين و «انشودة انغولا» اخراج حميد حساني. وينفذ الانارة المسرحية «الدكتور فاوست» لغوته واخراج الطالب راجي عبد الله وكاطروحة للتخرج في اواخر الستينات من القرن الماضي.

واذ تتصدر فرق اتحاد الفنانين المشهد المسرحي عبر ما تقدمه من مسرحيات مهمة ومتميزة للكاتب نور الدين فارس او الكاتب الطليعي طه سالم، يتم اختياره ومجموعة من زملائه للعمل في هذه المسرحيات عام 1968، ينتقل للعمل في فرقة المسرح الفني الحديث لتنفيذ الاضاءة لتوليفة مسرحية اعدها الفنان قاسم محمد وبعنوان «انا ضمير المتكلم « عن اشعار المقاومة الفلسطينية وتضامنا مع الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني.وقد وجهت الدعوة لهذه المسرحية للمشاركة في احدى المهرجانات التي اقيمت في الجزائر وكان غانم   بابان من ضمن الوفد المسافر.

عام 1970 وهولا يزال طالبا في السنة المنتهية من معهد الفنون، تكون اطروحة تخرجه مسرحية بعنوان «الاله الحاسبة» للكاتب اولمر رايسس وتقدم على قاعة حقي الشلبي ومن اخراجه وتمثيله.ولما كنت طالبا في اكاديمية الفنون الجميلة – الصف الثالث، كنت احرص على مشاهدة المسرحيات العالمية والعربية التي تقدم في معهد الفنون رحت اتابع بشغف «الاله الحاسبة» ثمة شخصية محورية ... ولكثرة استخدام الحاسبة وعلى مر الايام والاعوام.. تلاحقه الارقام .. اينما حل وترحل .. في اليقظة والمنام .. تتقافز حوله وامامه .. تتعقبه وترهقه .. وتاخذ حيزا من حياته وتفكيره.

والحق يقال ان الطالب غانم   بابان قد ادى هذه الشخصية بكل براعة وتمكن ومهارة .. ها نحن امام ممثل قصير القامة، ممثل قدير يعرف كيف يستثمر ادواته على خير ما يرام لتجسيد هذه الشخصية بعفوية واقناع، ويتم اختيار هذه المسرحية للمشاركة في احتفالالت يوم المسرح العالمي وتترك اصداء طيبة وايجابية.

بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة، يواصل دراسته الجامعية في اكاديمية الفنون الجميلة – قسم المسرح- وعلى ايدي اساتذة كبار واجلاء، ينهل من معارفهم والجديد الذي جاءوا به بعد عودتهم من الخارج.

 مسرحيات عدة

خلال وجوده في الاكاديمية يمثل في المسرحيات التالية: مركب بلا صياد تأليف اليخاندر كالونا اخراج بدري جون فريد، ثورة الزنج تأليف معين بسيسو اخراج سامي عبد الحميد،الجرة المحطمة،غاليلو غاليله برشت،رثاء اور نص قديم اخراج عوني كرومي ،كلكامش طه باقر  اخراج سامي عبد الحميد ،مهاجر بريسبان جورج شحادة،مريض بالوهم مولير ،حكاية فاسكو. بعد مرحلة الاكاديمية، يساق الى الخدمة العسكرية ويعاني كثيرا من سياط التزاماتها الصارمة والعقوبات العسكرية. في عام 1975 يشارك و كممثل في مسرحية «مهنة جذابة» تأليف اندريه اوسبينسكي اعداد واخراج فلاح هاشم. ولصالح فرق المسرح الشعبي  تعرض المسرحية مساء الرابع من اب عام 1975 وقبل هذا الوقت وبالتعاون مع الفنان علي ماجد يؤسسان فرق مسرح الـ 70 ويتم اختيار احدى روايات كافكا التي عنوانها «المسخ» لاعدادها لتكون عملا مسرحيا لهذه الفرقة الا ان ما ينشر عن هذا الكاتب، اي كافكا وارتباطه بالصهيونية، يدفع الفرقة الى ايقاف التمرينات واسدال الستار على مثل هذا المشروع.ومن جديد وحينما تقدم فرقة المسرح الشعبي لتقديم مسرحية «امتحان الموديل» اعداد فلاح هاشم واخراج كاظم الخالدي، يتم اختياره ممثلا في هذه المسرحية التي عرضت على مسرح الستين كرسي وكان ذلك عام 1978 لم يكن دوره رئيسيا، ومع هذا فقد كان اقرب الى قلبه واحساسه. ولهذا كان يمثل الدور كما لو انه يمثل دور البطولة في المسرحية. وتدور الايام والليالي .. وتستعد فرق المسرح الشعبي لتقديم مسرحية « رقصة الاقنعة» للشاعر الشعبي المعروف شاكر السماوي واخراج الاستاذ جعفر السعدي. فيناط له احد الادوار في هذه المسرحية، وتواجه المسرحية صعوبات وتحديات كثيرة منها اضطرار اغلب الممثلين والممثلات لمغادرة العراق هرباً من البطش والتنكيل من قبل الاجهزة الامنية  المرتبطة بالنظام الديكتاتوري الدموي في العراق.ولنا ان نذكر بعض الاسماء (الفنان الراحل اديب القليدجي، الفنانة الراحلة وداد سالم، الفنان فلاح هاشم، الفنانة نضال عبد الكريم، الفنانة نماء الورد] وبالتالي اضطرار المخرج لاعتماد وجوه جديدة وبديلة عنها.قدمت المسرحية من على مسرح بغداد ولاقت استحسانا كبيرا. ولابد من القول ايضا، ان ظهوره ونجاحه في مسرحية «بغداد الازل بين الجد والهزل» التي اعدها واخرجها الفنان قاسم محمد، لصالح فرق المسرح الفني الحديث والتي مثل فيها عدة ادوار قد اضاف لرصيده المسرحي الكثير وبدا ممثلا يشار له بالبنان وكان ذلك في عام 1975.في اواخر السبعينيات من القرن الماضي وحيث تزداد الاوضاع سوءا وتتسع حملات الاعتقالات والمداهمات للمثقفين اليساريين ينتقل غانم   بابان من التلفزيون الى استعلامات وزارة الاعلام ويتم استدعاؤه للتحقيق من قبل المسؤول الامني في الوزارة لمعرفة انتمائه السياسي وعلاقته بفرقة المسرح الفني الحديث.

يشعر بالمتابعة والملاحقة .. وربما الخوف والاختناق .. يدفعه ذلك الاتخاذ قرار السفر.يسافر الى اسطنبول عبر القطار ومنها بلغاريا نلتقي في صوفيا .. يزوني في فندق سردنا كورا في شارع جورجي ديمتروف .. نسترجع الذكريات القديمة التي جمعتنا ايام وجودنا في فرقة مسرح اليوم وابرز الوجوه التي ترددت على الفرقة.

اذكره بمزاح ثقيل او مقلب دبره لاحد الفنانين ممن يمتلكون صوتا اجشا ووجها متهجما حينما اخبره بأن احدى الصحف قد نشرت مقالته واشادت بقدراته الفنية وطاقاته في التمثيل. وراح يبتعد عنه. فما كان من الفنان المعني الا ان يتلهف اكثر فاكثر لسماع المزيد مما ينشر عنه .. راح ينتظر من غانم ان يزف اليه تفاصيل اكثر.. لكن غانم وبطريقة تمثيلية بارعة في كل مرة يتهرب منه .. فيزيد من فضول صاحبنا وتشوقه حتى اذا ما بلغ الالحاح مداه، فما كان من غانم الا ان ينفجر بوجهه قائلاً: انت اشكد تلح ومد يده الى جيب جاكيته ليخرج منها قصاصة فيها صورة قرد «شمبانزي» ويلوح بها اليه.وينشر موجة من الضحك والاستغراب والفكاهه والطرافة مقابل غضب واستياء الفنان المعني، الذي هجم عليه وامسك بخناقه ولو لا تدخلنا لما فض النزاع.من صوفيا يسافر الى بيروت حيث ازيز الرصاص وغارات الطيران والاشتباكات المسلحة هنا او هناك، يلتقي بصديقه الفنان كاظم الخالدي، الذي كان يبحث عن ممثل ليسند له دور «رجل المخابرات» او «الجلاد» في مسرحية «القصة المزدوجة لبالمي» ليسند له الدور فيسند في المسرحية.. يتمرن على الدور لفترة ليست بقصيرة، لكنه لا يستمر .. وسرعان ما ينسحب من الدور فيتم اختيار الفنان منذر حلمي بديلا عنه وتقدم المسرحية على احدى مسارح بيروت، واذ تعيش بيروت اياما صعبة اثر الاجتياح الاسرائيلي لها عام 1982، يفكر الكثير من المدنيين بمغادرت العاصمة بيروت الى دمشق او غيرها من العواصم ومن بين هؤلاء «كاظم الخالدي» «ذياب كزار» «ابو سرحان» و»غانم   بابان»يصادفهم حاجز امني لحزب الكتائب .. وبعد التعرف على جوازاتهم .. يتم اطلاق سراح غانم   بابان لانه يحمل الجواز العراقي.اما «كاظم الخالدي» و»ابو سرحان» فيتم اعتقالهما لانهما يحملان جوازات سفر يمانية ومنذ ذلك اليوم «13/8/1982» وحتى يومنا هذا ما زال مصيرهم مجهولا .. ولعلها فرصة طيبة لمناشدة الجهات المعنية مجددا لتواصل البحث والاستفسار عنهم عسى ولعل ان يسفر هذا البحث عما يسعد ذويهم ومحبيهم واصدقاءهم.وقد احسن صنعا كل من الصديقين الفنان الراحل اسماعيل خليل والكاتب عبد اللطيف الحبيب في المانيا، حينما بادرا لاصدار كتاب بعنوان «كاظم الخالدي .. شاهد على العصر» تضمن الكثير من الشهادات التي عكست المحطات الفنية التي مر بها هذا الفنان، فضلاً عن سيرته الذاتية والفنية.

ومن بين هذه الشهادات، شهادة الفنان غانم  بابان بشهادة متوترة ومعبرة عن علاقته الحميمة بالفنان كاظم الخالدي. في اعقاب التاسع من نيسان عام 2003 يعود غانم بابان من السويد الى الوطن .. يحزنه كثيراً الخراب الذي اصاب البلد اثر حروب كارثية توجت بالاحتلال.بعد جهد جهيد يتم تعيينه في وزارة الثقافة – مجلة تشكيل.

يتفرغ لكتابة مذكراته وابرز المحطات التي مر بها في المغتربات والمنافي.. ينتهي من ذلك عام 2006 ويحمل اسم «اسفار التيه العراقي» وعبر 544 صفحة من القطع الكبير حافلة بتفاصيل صغيرة ودقيقة وبما يكشف عن ذاكرة طرية ووقادة واسلوب سلس وممتع. يصور بعد رحيله وقد استفدت منه كثيراً وانا القي الضوء على حياة الفقيد.واخيراً لابد من القول – حينما بادر الفنان سامي عبد الحميد لاخراج مسرحية «بيت الارامل» تأليف الكاتب الشيلي ارييل دورفمان وترجمة الصديق الفنان علي كامل ولصالح دائرة السينما والمسرح في بغداد اوجد في الممثل غانم بابان خير من يعينه على تمثيل احد ادوار المسرحية.والمسرحية تتحدث عن المحن والاهوال التي مر بها الشعب الشيلي والتي يمكن اسقاطه على ما يجري في بلدنا، حيث النسوة وعلى ضفاف نهر دجلة يتسابقن لمعرفة الجثث التي تطفو على المياه اثر الاحتراب ايام الطائفية المقيتة. المؤسف ان هذه المسرحية تعثرت ولم يكتب لها ان تقدم على خشبة المسرح لاسباب نجهلها.

في السابع عشر من حزيران عام 2021 يغيب الموت الفنان غانم بابان بعد رحله مليئة بالمصاعب والمتاعب والتشرد والضياع والعطاء والابداع.


مشاهدات 61
أضيف 2025/01/14 - 9:18 PM
آخر تحديث 2025/01/15 - 1:10 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 266 الشهر 6755 الكلي 10196720
الوقت الآن
الأربعاء 2025/1/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير