الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الأدب النثري والتيه الشعري .. رؤية

بواسطة azzaman

الأدب النثري والتيه الشعري .. رؤية

عبد الكريم احمد الزيدي

اخترت عنوان المقال للإبتعاد عن الشبهة في صحة اعتماد النثر الأدبي أصلا من أصول الشعر العربي الذي اختلف فيه الكثيرين وكانت موضوعة ( القصيدة النثرية ) المحك الذي يماز بين حقيقة إعتمادها شعراً عربيا أو التنصل من جوازها ليطلق عليها نثراً أدبيا يحاكي صورة الشعر العربي وباباً يطرق في مصارعها ليسمع لها من به صمم ، ولعلي ابتدأ اولاً بتعريف الشعر وأصوله لنتحقق بدلائل تزيح عن اعيننا بعض الذي غشيها وألحق فيها آفة القذى ليطفئ نورها فيختلط على الكثيرين البيان والوضوح .

فالشعر العربي عرفه العرب منذ تاريخ ولادتهم وكان صنعة لبوس للكثير منهم ، الذين استفادوا من ثراء لغة  مفرداته وجزالة لفظه وسلامة معانيه ، ليوظّفوا كل مهاراتهم وفطرتهم في استنباط أقوالٍ موزونة بصيغة معينة ترهف السمع وتريح معانيها لهج النفوس وكأنها لحناً طربيا ووحيا موسيقيا على وقع الإيقاع يُشَّنف الآذان ويدخل الراحة إلى أصحابها ، بهذا المعنى عرف العرب الشعر الذي أصبح بعد هذا علماً وأصلا له قواعده وأشراطه ونهجاً له صوره ومفاهيمه الذي نعرفه في حاضرنا على ما هو عليه .

والشعر هو لسان العرب كما يطلق عليه لما له من فضل في بيان حياتهم وبيئتهم وتفاصيل وقائعهم ومفردات حياتهم وتاريخ ولادتهم وسالف عهدهم ، ولقد رأينا تاثير الشعر في حياة العرب قبل مبعث الرسول (عليه الصلاة والسلام) وانبهارهم ببناءه ونظمه وأدوات صياغته حتى اختلط عليهم سحره فأجازوا لأنفسهم أن يقترن شعرهم بما جاء في آيات القران الكريم ويشبهوه سفهاً بكلام الله سبحانه وتعالى .

تعمدت اختيار هذه المقدمة لأتمكن من بيان مقصود هذا المقال الذي خالطه كثيراً من اللّبس حتى استعصى علينا تقديمه بما يليق بالأدب العربي وتاريخه التليد لنتمكن من التمييز بين أدب الشعر وما جاء به وأدب النثر بصورته الحديثة ونظرية صياغته على أنه جنساً من اصول الشعر العربي وقرينا له في البنى والنظم والأسم .

فالشعر العربي وإن ولد في بيئة أصيلة ومهد أمين صائن لم تكن تحدده أطر أو مفاهيم وأسس يبنى عليها ، إلا إنه وصلنا معافىً تام وسليم ، وحبى بخطواتٍ ثابتة حتى وقف بين يدي من يضع له مادة بناءه وتفسيره وأجاز بحقه أن يحصره في بحور معينة بتفاعيل وأوزان مفهومة وقوافي تنقل أحداثه بنظام محكوم وفق قياس ومعيار ثابت لايقبل التشويه ، ليبقى حيّاَ تنبض أنفاسه بين العصور برغم ما عصف فيها وأعاب ردائها وزيَّف وصفها ، وظل الشعر العربي محافظاً على بناءه وصورته وقياسه وأجاز لذاته التحديث بما يفرضه العصر والتحول حتى تزاوجت الحداثة بروحه لتظهر وسامته بين باقي الفنون والثقافات جيلا بعد جيل ،  وما نقرأه اليوم بعيداً عن ألفاظ الجزالة والوحشية والغرابة التي ولد فيها منذ أصحاب المعلقات الخالدة إلا دليلاً لما أقول .

ولكن الصور التي أُدخلت عليه بزعم التحديث والتطوير لم تأتي بقياسه ولا استطاعت أن تحافظ على أصوله وروحه برغم محاولات الكثيرين ممن أرادوا لأنفسهم سمة الريادة في التغيير والتعبير عن بواطن نيّاتهم وخنوعهم للإقتباس والتقليد والنقل من تجارب غيرهم من الأمم والثقافات ومحاولة إقحامها بصيغ الموائمة والتحسين لأصل الإرث العربي الذي لايقبل تزاوج جنسٍ هجين وولادة ما أشبه بالبدعة الأدبية المستحدثة بمفهوم التجديد والعصرنة .ولربما نجد في قراءة المحدثين أو ما يطلق عليهم برواد الشعر الحديث عذراً لتبنيهم هذه الحداثة ، وذلك من خلال محافظتهم أو محاولتهم تجربة المزج اللغوي بين جمل الشعر الأصل وقياسه وإقحام المادة النثرية بشاكلة الجملة الشعرية لتظهر برداء مجدد خالٍ من المادة الأصلية للبناء وفق ما يعرف بتحرير القصيدة من قيود وقضبان الحبس الطوعي الذي واكب الشعر العربي منذ ولادته  ، غير إن ما انقلب على هذا التحديث في الشعر وكتابته محدثين غالوا في نهج التغيير بقصد التجديد داعين إلى الإنقلاب التام على الشعر القديم ونظامه ومقلدين لمن تأثروا بهم من الأدب والشعر الغربي الحديث ، وبدأوا بتنظيم الشعر وكتابته بطريقة تخلو تماماً من التفعيلة والأوزان والقافية.

 وبأسلوب الإسترسال الحر الذي لا يقيده أو ينظمه أيّاً من صيغ الكتابة والتفعيل والقالب ، وهذا ما نعرفه اليوم بالنثر الأدبي أو قصيدة النثر ، وهذا هو ما أسميه إن أجيز لي بالهوّة الأدبية والتيه الشعري في مدٍ لا يحتويه حد على ظنٍ أن ما يقاس فيه هو الشعر الحديث أو الشعر النثري .

وهنا نحن نختلف معهم في الرؤية والتنظير لأن تحرير القصيدة الشعرية كما جاء في زعمهم دون أن نضع لها قياساً أو معياراً معناه تغييب الأصل ووصفه بالجامد أو المقيد والسماح بإنتهاك كل حقوق ملكيته وتبرير الخوض والإبحار في يمٍّ لا نعرف له حدود ، وعلى هذا فلابد لأصحاب هذا التوجه أن يضعوا ميزاناً وعلماً نحويا يتوافق مع هذا النهج بما يشاكل عروض الشعر العربي وياخذوا من أصل الشعر ومقاييس نظمه مادة محدثة وجديدة  لقياس الجملة الشعرية ووضعها معياراً للبناء والصياغة بشكلها الذي يسموه معاصراً ومحدثا .ونحن  وإن نجد مثل هذا الراي وجهاً من الصعب أن يتبناه أصحاب اللغة والنحو وعلمائه المحدثين ، فإننا نأمل أن يحافظ الشعر العربي على تاريخه وأهل النهى من أهله وأن يبقى معصوماً بما ولد عليه وآل اليه وأن تبقى رسالته ما بقى الليل والنهار ، أمّا ما عداه من قولٍ أو كلام فإنه يظل نثراً أدبيا وجنساً لا يخالط في معناه وصياغته ما نعرفه بالشعر العربي الفصيح .أتمنى أن أكون قد أوضحت الفارق اللفظي بين الشعر والنثر ، وإني إنما أدعو كل علماء اللغة والنحو والصرف ورجال الأدب وأساتذته أن يتبنوا توصيف ريادة الشعر العربي باسم القصيدة النثرية أو الجنس الأدبي بما  يوافق صياغة أدبية لها مفاهيمها وأسسها ونهجها بعيداً عن إطلاق وصوفها وركوب من جاز له أمواج وعباب بحر لا يحسن السباحة فيه إلا من تأدب وتعلم ودرس وفهم الشعر وقواعده لكي يماز بوضوح بين الصورتين وأن يحاولوا مجتهدين وضع قياس أو معيار ونهج للتوصيف وألقاء الحجة على من يختلف في صياغته ، ومن الله التوفيق .


مشاهدات 588
أضيف 2023/11/10 - 8:34 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 2:22 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 404 الشهر 11528 الكلي 9362065
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير