جلسة في رحاب كنز الدبلوماسية والعلم محمود علي الداود: الرئيس التركي يزور السفارة العراقية لتناول الطعام من مطبخ عقيلة السفير
- المطالبة بالكويت خطأ فادح من الزعيم الى صدام
- العدالة الاجتماعية مطلب والاهتمام بالعلماء شرط تقدم البلدان
- شاذل طاقة توفي مكموداً وزيباري حاول اعادة هيبة الدبلوماسية العراقية
أحمد عبد المجيد
اذا كنا جميعاً مدينين لوطننا بما وصلنا اليه وبلغناه، فان قلة نادرة يكون الوطن مديناً لها، ولعل الدكتور محمد علي الداود واحداً منها. اذ لايحل في مكان ، داخل العراق وخارجه، إلا ويكون صيته قد سبقه. فهو الاستاذ المتمرس والسفير والدبلوماسي والخبير الاستراتيجي، امضى 75 عاماً من حياته وهو يعمل ويبحث ويدرس ويضخ العلوم السياسية لاجيال من الطلبة. ومن النادر ان نعثر على موظف مخضرم كالداود مارس المهنة بالعطاء والوفاء ذاته، خلال الحقب والعهود السالفة ، ملكيها وجمهوريها.
ومنذ ان عاد الى بغداد، منهياً الدراسة العليا في لندن عام 1956 وهو يواصل العمل بارادة وطنية لا تعرف الملل وبمثابرة وحماس قل نظيرهما.
فقد عين تدريسياً في (كلية التربية) ومحاضراً في دار المعلمين العالية، ونقل عام 1960 الى وزارة الخارجية مديراً لشعبة الخليج العربي . وظل يلازم (الدبلوماسية)، فشغل مناصب عدة بدءاً من سفير ثم مدير عام. وكان الوحيد الذي ادار 4 من أصل 6 دوائر في وزارة الخارجية. وهي حالة وظيفية نادرة ، كما رافق 12 وزير خارجية طيلة مسيرته ، ويحتفظ بتقويمات عن ادائهم وادوارهم في ادارة مهمة السياسة الخارجية للعراق، سواء في الحقبة السعيدية ابان العهد الملكي أو الحقب التالية في العهد الجمهوري. انه بخلاصة العبارة كنز عراقي علمي من الخبرة المتراكمة والانجاز الذي لم يتوقف حتى الساعة، حيث يمارس عمله ، حالياً، رئيساً لقسم الدراسات السياسية والاستراتيجية في بيت الحكمة. وهذا الصرح الفكري والمعرفي حظي باهتمام خاص من الداود، فجاب بآثاره وعناوينه الحضارية الآفاق ونجح في اقامة الندوات والمؤتمرات الدولية واللقاءات الحوارية التي تشرح انجازات (أول جامعة علمية عالمية) عرفتها البشرية ، ومن بين الخطوات التي قطعها في هذا الاتجاه مؤتمر دولي اقيم عام 2000 وآخر احتضنته ماليزيا وثالث ورابع وخامس، كان الداودي اللولب والمحرك لها.
وكنت سعيداً وأنا استقبل الدكتور الداود، صباح يوم الجمعة الماضي، في مبنى الجريدة، في جلسة شملت احاديث تاريخية وعلمية ومعرفية استعرض خلالها الداود رؤاه وانطباعاته وشهاداته، بشأن الشخصيات والعهود والآمال والالام معاً. جلسة استغرقت ساعتين فتحولت بالنسبة لي الى دروس ومحاضرات سادتها المتعة وطبعتها الفائدة والصراحة. واعترف ان الجلوس مع هذا العالم لا يعد حظوة حسب، بل يمثل تجربة حياة وتحد .
ويكفي القول انه (اثناء عمله بوزارة الخارجية كان ممثلا شخصياً للقيادة العراقية 1963 – 1968 في قضايا الخليج العربي ومستشاراً لمجلس الوزراء في شؤون الخليج ورئيساً لديوان مجلس الوزراء بالوكالة في حكومة الدكتور عبد الرحمن البزاز).
وهو يرى في هذا الأستاذ الخبير في القانون الدولي ، شخصية استثنائية . اشاد الداود بحكمته ورجاحة عقله في تصريف الاعمال وتدارك المنعطفات الحادة ولاسيما خلال فوزه برئاسة الجمهورية خلفاً للرئيس عبد السلام محمد عارف ، قبل ان يتدخل ضباط الجيش ويدفعونه الى الانسحاب ليتم اختيار عبد الرحمن ، شقيق الراحل.
استشراف الافاق
ويمتاز الداود بعقل علمي استثنائي ، فقد سبق عمره في استشراف افاق الاوضاع في الخليج بعد انسحاب الانكليز من الخليج وتسليم مقاليده لشيوخ المنطقة . وفي الجلسة أشاد الداود بحكمة وواقعية كل من راشد آل مكتوم والد الشيخ محمد ، والشيخ زايد آل نهيان ، الذي وصفه بانه (رجل يدرك طبيعة المنطقة وتحدياتها ويفهم حدود القوة الذاتية في خضم بيئة دولية متصارعة).
وفي ما كان الداود يستعيد على مسامعي ذكرياته مع نوري السعيد ، أشار الى قول له يلخص صفات الداود ونشاطه المواظب عندما قال له (من اين أتيت بالرأي ان الانكليز ما عادوا يملكون القدرة المالية لادارة واحتلال الخليج وانهم سينسحبون منه، وان بوسع العراق ان يسد الفراغ الذي سيحدث، بدلاً من ان تقوم ايران بهذه المبادرة)! وللداود آراء حاسمة تتعلق بالاوضاع الراهنة التي آل اليها العراق، والناجمة عن (المطالبة بالكويت والزحف عليها وتحدي ارادة المجتمع الدولي)، ويسرد التفاصيل منذ ان اعلن الزعيم عبد الكريم قاسم هذا المطلب وانتهاء بقرار صدام حسين اجتياح الكويت واعلانها محافظة رقم 19.
لا ينفي الداود ان الزعيم قاسم وطنياً نزيهاً، لكنه تورط في تلك المطالبة وبتصريحه المشهور (سحب سفراء العراق لدى الدول التي تعترف باستقلال الكويت او اشهارها دولة). ويقول (دفعة واحدة اضطر قاسم الى اعادة 25 سفيراً من العواصم المعتمدين لديها. وهو خطأ دبلوماسي يتعذر تداركه. اذ ليست الصعوبة في قطع العلاقات ، بل في عملية اعادتها). ويستطرد فيستذكر ما حدث أيضاً بالنسبة لمصر والدول العربية، بينها العراق بعد قطع العلاقات مع امريكا وبريطانيا في حرب حزيران 1967). أما بالنسبة لاحداث آب 1990 فيمثلها الداود بمجازفة لاعب قمار يضع املاكه ومصير عائلته على الطاولة ويراهن عليهما دفعة واحدة.
لقد خسرنا كل شيء ويصعب جداً التعويض)، ثم يصمت الداود وينظر الى عيني قائلاً بأسف (الأمر يحتاج الى وقت طويل والاصلاح صعب جداً).لقد (حضر الداود العديد من اجتماعات القمم العربية واجتماعات رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية العرب). انه يحمل عقيدة الدبلوماسية في حل المنازعات بدلاً من الحرب التي لا تجلب سوى الكوارث والتراجعات. وفي ضوء هذه (العقيدة) العلمية عالج ملفات وضعت في عهدته كملف القضية الفلسطينية وشؤون الخليج العربي.
ولذلك تمت الاستعانة بجهوده وخبراته في حوارات ومباحثات الثورة العمانية مع الجانب البريطاني ، وله ضمن مؤلفاته كتاب (التاريخ السياسي لقضية عمان) صدر عام 1964 فضلاً عن خمسة كتب اخرى مكرسة للحديث عن اهمية دور الخليج بالنسبة للعراق والعلاقات الدولية وضرورة العمل العربي المشترك. لقد (وضع الداود المولود في الموصل عام 1930 لنفسه منهجاً سار عليه منذ بواكير حياته الاكاديمية، وهو ان على المثقفين العرب ، ومنهم المؤرخين ، مسؤوليات جسيمة ازاء قضايا بلادهم الحصرية وان من اولى واجباتهم تعريف الاجيال بقضاياهم الوطنية والقومية ودفعهم الى تبني هذه القضايا).
لقد استوقفتني تقويماته التي شملت وزراء الخارجية بدءاً من طالب شبيب وهاشم جواد وانتهاء بهوشيار زيباري ، الذي اشاد الداود بجهوده في استعادة هيبة الدبلوماسية العراقية بالاستعانة بأصحاب الخبرة، مؤكداً ان (السفراء الاكراد يتحدرون من عوائل معروفة ذات امتدادات اجتماعية، وقد تمكنوا من ادارة سفارتهم بمهارة). ويحدد الداود معايير السفير الناجح بالثقافة واتساع العلاقات داخل البلد المضيف واعتماد مجسات للتحقق من المعلومات، ولاسيما تلك التي تتعلق برأس الهرم، ويقول انه (في اعوام اشغاله السفارة العراقية في انقرة (1972-1976) علمت بمرض الرئيس التركي جودت صوناي ورقوده في مستشفى خارج العاصمة ، فعقدت العزم واصطحبت عقيلتي وذهبنا لتفقد الرئيس ، وكان الرجل ضابطاً بارزاً في قيادة الجيش التركي، فبدا مسروراً بزيارتنا، وجرى حديث عن المطبخ العراقي، فبادرت زوجتي بدعوته الى تناول الطعام العراقي بعد تماثله للشفاء و مغادرته المستشفى .
وكانت مفاجأة ان يفي الرئيس بوعده، وزارني رئيس التشريفات التركي طالباً الاستعداد لاستقبال الرئيس وضيوفه البالغ عددهم نحو 60 من كبار الشخصيات الرسمية والحزبية التركية. ورأيت ان هذه الفرصة لم تتحقق لاي سفارة، اذ جرت العادة ان يزور الرؤساء السفارات عند قدوم نظرائهم. فاتصلت فوراً بمكتب الرئيس احمد حسن البكر، طالباً منه تقديم هدية باسمه للضيف الكبير ، ولم تمض 24 ساعة حتى وصلني المرحوم طارق حمد العبد الله وكان مديراً لمكتب البكر، حاملاً هدية العراق التي قدمتها اليه .
وكان من شأن هذا الحدث ان وطد علاقة بغداد بأنقرة). وسألت الداود عن الوزير الشاعر شاذل طاقة، وما أشيع من زج السم اليه، فلم يؤكد الداود ذلك لكنه اثنى على حسن سلوك وسمعة طاقة ورأى انه (توفي مكموداً).
وكان من الطبيعي ان اسأل الداود عن علاقته بالرئيس صدام حسين، فابتسم وقال بتأن ملحوظ (لم يكن يحبني او يرتاح لعملي. فقد أوقفت تدخل مسؤولي المخابرات والحزب ، في عمل السفير وعاقبتهما بالنقل الى بغداد. وربما استفززته بهذا الاجراء، وسرعان ما اعادني الى وزارة الخارجية). وخلال حديثه معي نوه الداود الى قضية تراجع مستوى البحث العلمي واراء الهيئات التدريسية وانعدام الاهتمام بالعلماء واصحاب الخبرات في ظل تفشي نزعة الانتقام والثأر وغياب العدالة الاجتماعية في البلاد، وأحسست بالداود يكابد المرارة وهو يهمس في أذني (هل يجوز ان اثنين من احفادي يحملان مؤهلات جامعية ومهارات تقنية وادارية ، مازالا يبحثان عن فرصة عمل؟). الجدير بالذكر ان أحد احفاده مهندس في النفط، وان الداود الجد، كان في عهد عبد الكريم قاسم يتفاوض ضمن الوفد العراقي، مع شركات النفط البريطانية، تمهيداً لصياغة قانون رقم 80 المشهور.
سؤال للمسؤولين
ودعني الداود الذي ينوء بـ 93 عاماً من الكفاح والعطاء الوطني في اهم القطاعات العلمية والوطنية الحكومية ، وترك في صدري ألماً وسؤالاً برسم المسؤولين واصحاب المشاريع السياسية مؤداه (متى تتحقق العدالة المجتمعية التي تضع الحقوق في نصابها وتأخذ الخبرة والكفاءة والانجاز معياراً لشغل الوظائف وانتزاع الفرص؟). وان البلدان التي تتجاهل حقوق الداود ورهطه ليس بوسعها ان تتقدم كما لا يحق لها ان تعد بالتقدم والاصلاح.
وقبل ان اختم ، فان الدكتور الداود اتحفني بهدية ثمينة ، وهو يحط كنسمة باردة في جو صيفي ، عبارة عن ثلاثة كتب قيمة قدمها لي، مشيداً بجهود وكفاءة مؤلفيها الأول كتاب (سياسة العراق الخارجية في مائة عام 1921 – 2021) للدكتور محمد الحاج حمود ، والثاني (اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد) للدكتور سامي سبنر.
أما الثالث فهو باللغة الأنكليزية ويتضمن رسالة الماجستير من جامعة جونز هوبكنز في الولايات المتحدة التي نالها عام 1954 بعنوان (ثورة العشرين الوطنية العراقية 1920).