الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شخصيات عرفتها.. نصر حامد أبو زيد مفكر حاصره التكفيريون

بواسطة azzaman

شخصيات عرفتها.. نصر حامد أبو زيد مفكر حاصره التكفيريون

 

صلاح عبد الرزاق

من أبرز قضايا الفكر المعاصر في الربع الأخير من القرن العشرين قضية المفكر المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد. فقد قضت محكمة مصرية بالحكم عليه بالكفر والردة بسبب آرائه وأفكاره ، وبالتالي التفريق بينه وبين زوجته باعتبار أنه لا يجوز للمسلمة الزواج بغير المسلم ، فاضطرا إلى مغادرة البلاد والإقامة في المنفى الهولندي.

النشأة والسيرة

 

ولد نصر حامد أبو زيد في 5 تموز 1943 في قرية قحافة وهي إحدى قرى محافظة طنطا بمصر. نشأ في أسرة ريفية بسيطة لم تتمكن من الانفاق عليه لإكمال الدراسة الثانوية كي يلتحق بالجامعة. ولذلك اكتفى بالحصول على شهادة من الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام 1960.

خلال الفترة 1961 – 1972 بقي نصر حامد يعمل في وظيفة اللاسلكي بالهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية. وكان خلال هذه الفترة يدرس الثانوية ونجح ثم دخل كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة وتخرج منها بتفوق فتم تعيينه معيداً فيها عام 1972 .

تدرج بالمراتب الأكاديمية حيث أصبح مدرس مساعد عام 1976 ثم مدرس بكلية الآداب عام 1982. وعمل أستاذ مساعد بكلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة وبالخرطوم في الفترة 1983- 1987.

حصل على منحة من مؤسسة فورد للدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1976-1977 .

وحصل على منحة من مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية 1987-1990.

أصبح أستاذاً زائراً بجامعة أوساكا للغات الأجنبية باليابان 1985-1989.

في عام 1995 أصبح أستاذاً بكلية الآداب جامعة القاهرة . وبعدها بأسابيع اضطر في نفس العام لمغادرة مصر بعد محاكمته. سافر إلى هولندا عام 1995 حيث أصبح أستاذاً زائراً بجامعة هولندا.

حصل نصر حامد أبو زيد على جوائز مثل:

-           جائزة عبد العزيز الأهواني للعلوم الإنسانية من جامعة القاهرة عام 1982

-           جائزة اتحاد الكتاب الأردني لحقوق الانسان 1996

-           وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس جمهورية تونس 1993 .

-           ميدالية (حرية العبادة) من مؤسسة إليانور وثيودور روزفلت الأمريكية عام 2002 .

مشاكل ومعارك فكرية وعقائدية

في التسعينيات من القرن العشرين انتشرت في الأوساط العربية الأكاديمية والفلسفية والكلامية نظرية الهرمنيوطيقا . ومصطلح الهرمنيوطيقا مصطلح قديم بدأ استعماله في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني خصوصا الكتاب المقدس. ويشير المصطلح اليوم إلى نظرية التفسير. ويعود أقدم استعمال للمصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام 1654م وما زال مستمرًا حتى اليوم خاصة في الأوساط البروتستانتية.  وقد اتسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتسـاعًا تشمل كافة العلوم الإنسانية؛ كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجية وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفلوكلور، والقضية الأساسية التي تتناولها الهرمنيوطيقا بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء كان هذا النص تاريخيًا، أم دينيًا.

تأثر أبو زيد بهذه النظرية وحاول تطبيقها في المجال العربي والإسلامي. فقد طالب بالتحرر من سلطة النصوص ، وأولها القرآن الكريم الذي قال عنه (القرآن هو النص الأول والمركزي في الثقافة.  لقد صار القرآن هو نص بألف ولام العهد) (مفهوم النص ص 14-27) وقال أيضا: (هو النص المهيمن والمسيطر في الثقافة ) وقال: ( فالنص نفسه - القرآن - يؤسس ذاته دينًا وتراثًا في الوقت نفسه). وقال مطالبًا بالتحرر من هيمنة القرآن:  ( وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورًا قبل أن يجرفنا الطوفان).

وكان لكتابه (نقد الخطاب الديني) وهو بحث قدمه للحصول على درجة الاستاذية عام 1995 و (النص، السلطة الحقيقية) و (مفهوم النص ، دراسة في علوم القرآن) و أطروحته للدكتوراه (دراسة في تأويل القرآن عن ابن عربي) كلها اعتبرت إشارات إلى التشكيك بالقرآن والتفسير التراثي المتعارف عليه لدى المفسرين والفقهاء وخصوصا في مؤسسة الأزهر الشريف.

محاكمة أبو زيد

أثارت كتابات أبو زيد ضجة إعلامية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. فقد اتُهم بسبب أبحاثه العلمية بالارتداد والإلحاد. ونظراً لعدم توفر وسائل قانونية في مصر للمقاضاة بتهمة الارتداد عن الدين عمل خصوم نصر حامد أبو زيد على الاستفادة من قانون محكمة الأحوال الشخصية، التي يطبق فيها فقه الإمام أبو حنيفة، والذي وجدوا فيه مبدأ يسمى «الحسبة» حيث طالبوا على أساسه من المحكمة بالتفريق بين أبو زيد وزوجته. واستجابت المحكمة وحكمت بالتفريق بينه وبين وزوجته قسراً، على أساس «أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم». خلال المحاكمة رفض نصر حامد أبو زيد نطق الشهادتين لأنه كان يرفض التفتيش في نواياه. وكانت هيئة المحكمة قد طلبت منه النطق بالشهادتين كي يؤكد أنه مسلم!!!

وكان عدد من الأشخاص والمحامين قد قدموا دعاوى ضد أبو زيد يطالبون فيها بالتفريق بينه وبين زوجته قائلين ((أن أبو زيد ولد لأسرة مسلمة ويشغل وظيفة أستاذ مساعد الدراسات الإسلامية والبلاغة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ونشر كتباً وأبحاثاً ومقالات تتضمن كفراً صريحاً فيكون مرتداً مما يتعين معه التفريق بينه وبين زوجته ))

في 14/ 6/ 1995 أصدرت محكمة استئناف القاهرة حكماً برقم 287 تضمن التفريق بين الزوجين نصر حامد أبو زيد وابتهال يونس. وفي 8/ 8 / 1995 تقدم الزوجان بالطعن بقرار محكمة الاستئناف أمام محكمة النقض (التمييز) التي أصدرت قراراً طويلاً (34 صفحة) تضمن نقاشات فقهية وتفسيرية وروائية حول الردة واستتابة المرتد والفرق بين الارتداد الصريح بألفاظ الكفر وبين تأويلات لعبارات ونصوص. وفي الختام رفضت محكمة النقض الطعون التي قدمها أبو زيد وابتهال ومحاموهم.

جاء في قرار المحكمة :

(( باسم الشعب

محكمة النقض

الدائرة المدنية والتجارية والأحوال الشخصية

في يوم الاثنين الموافق 20 من ربيع الأول سنة 1417 الموافق 5 من أغسطس 1996 م

أصدرت الحكم الآتي في الطعون المقيدة بجدول المحكمة بأرقام 475 و 478 و 481 لسنة 65 ق أحوال شخصية الموضوع أولهما من :

1-السيد الدكتور نصر حامد أبو زيد

2-السيدة الدكتورة ابتهال أحمد كمال يونس

.... ولما تقدم يتعين رفض الطعون الثلاثة لذلك:

رفضت المحكمة الطعون الثلاثة وألزمت الطاعنين المصروفات ومبلغ 30 جنيهاً مقابل أتعاب المحاماة مع مصادرة الكفالة)).

ردود أفعال حول المحاكمة

أثارت قضية محاكمة نصر حامد أبو زيد الأوساط الاكاديمية والثقافية والفكرية. وانقسم الناس الى مؤيدين ومعارضين لمحاكمته ، حيث وجد المعارضون أن التفتيش في عقائد الناس أمر خطير يهدد كل عقل وصاحب تفكير جديد ، ويعني العودة إلى محاكم التفتيش المسيحية الأوربية في القرون الوسطى، وتكميم الأفواه وتقييد الأقلام من قبل أنظمة قمعية ومؤسسات دينية تريد التحكم بعقول الناس وأفكارهم. فيما وجد المؤيدون لمحاكمة أبو زيد وخاصة من المتطرفين والجماعات الأصولية أنه على الدولة حماية العقيدة الإسلامية ومعاقبة كل من يشكك بالعقائد والوحي والقرآن الكريم واجتهادات الفقهاء الماضين.

وكان أبرز من اتهم أبو زيد بالكفر هو الدكتور عبد الصبور شاهين صاحب التقرير الذي استندت إليه الدعوى القضائية. وقد اتهم شاهين أبو زيد بأنه:

أولاً: (دعا إلى الثورة الفورية على القرآن والسنة لأنها كما قال: نصوص دينية تكبل الانسان وتلغي فعاليته وتهدد خبرته. ويدعو إلى التحرر من سلطة النصوص، بل من كل سلطة تعوق مسيرة التنمية في عالمنا).

ثانياً: يقول على القرآن إنه منتج ثقافي تشكل على مدى 23 عاماً، وإنه ينتمي إلى ثقافة البشر، وأن القرآن هو الذي سمى نفسه، وهو بهذا ينتسب إلى الثقافة التي تشكل منها.

 

ثالثاً: قرر أبوزيد بتفكيره الخاص أن الإسلام دين عربي، وأنه كدين ليس له مفهوم موضوعي محدد.

رابعاً: هاجم في أبحاثه علم الغيب، فجعل العقل المؤمن بالغيب هو عقل غارق بالخرافة والأسطورة، مع أن الغيب أساس الإيمان.

 

وبعد مضي عدة سنوات أعلن عدد من المحامين المصريين تضامنهم مع الدكتور أبوزيد الذي حكم عليه بالردة عام 1995 لكن نصر أبوزيد عاد مجدداً إلى الأضواء في مصر وبصورة علنية من خلال إلقائه أربع محاضرات في مكتبة الإسكندرية كانون الأول/ ديسمبر 2008 إحداها عن التأويل اللاهوتي للقرآن الكريم كما قدمه المعتزلة، وفيها قال: أريد أن أتوجه بالشكر إلى مكتبة الإسكندرية هذا لقاء مرتقب من ناحيتي ومن جهتي، أن أتحدث بالعربية مرة أخرى بعد أن طال بي الحديث باللغة الإنجليزية في بلاد الغرب، فكلما دُعيت إلى أي بلد عربي أرحب بالدعوة وألبي الدعوة وأغير كثيراً من برامجي، وأعتذر عن كثير من ارتباطاتي السابقة لكي ألبي الدعوة. فما بالكم إن كانت الدعوة من مصر، فهنا تأتي جهيزة فتُسقط كل خطيب إذا دعت مصر.

 

واستضافته لجنة الحريات بنقابة الصحافيين المصرية قبل عدة شهور من وفاته تضامناً معه بعد رفض الكويت دخوله بناء على دعوة وجهت إليه لإلقاء عدة محاضرات وإلغاء التأشيرة التي منحت له بعد احتجاجات من التيار الإسلامي في البرلمان الكويتي.

وعقد اللقاء في البهو الأرضي لنقابة الصحافيين التي رفض مجلسها قبل ذلك أن يلقي أبوزيد محاضرة في قاعتها الرئيسة عن الفن وخطاب التحريم، وهو ما رفضته أيضاً كل المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة، فعقدها في الجامعة الأمريكية في قاعة صغيرة.

وقال الأديب يوسف القعيد:  إن الفكر العربي والإسلامي ، وأصرّ على كلمة الإسلامي، فقد واحداً من أهم أصحاب الأسئلة الكبرى والاسئلة الشائكة في القضايا الإسلامية. وأشار إلى أن الدكتور أبوزيد تعرض لأزمة ومحنة صعبة لا مبرر لها على الإطلاق حيث أدت إلى غربته وانتقاله من منفاه داخل بلده إلى منفاه خارجها ليعيش بعيداً عن وطنه وأهله وناسه. وتابع ;كنت أتمنى أن يعود إلى مصر ويستقر فيها وأن يرفع من فوق رقبته سيف حكم تفريقه عن زوجته الذى كان يمثل ضغطاً رهيباً جداً عليه، قائلا ً: كنت أتمنى أن يحتكم الجميع إلى العقل الرشيد ولكن للأسف هذا لم يحدث.

 

ما قالته زوجته عنه

بدأ حياته عضوا في جماعة الاخوان المسلمين ثم انتهى مفكراً فيلسوفاً.

لا تزال الدكتورة ابتهال يونس محتفظة بـ"بيجامة" و"روب" زوجها دون "غسيل" منذ وفاته، أملا فى الاحتفاظ برائحة جسده فيها، وتقول أنها ستؤدي فريضة الحج هذا العام، وتهب الحجة إلى روح زوجها. صوره التى تزين حوائط المنزل، تجسد تاريخ حياة زوجها وكأنها أمام شريط سينمائى، منذ كان طفلا يساعد والده فى "محل البقالة".

حين انضم إلى أشبال جماعة الإخوان المسلمين، لتكون بوابته للقاء المرشد العام للجماعة حسن الهضيبى، أثناء زيارته إلى طنطا. وقف نصر حامد أبو زيد، طفلا يهتف بصوت جهورى: «الله أكبر ولله الحمد، القرآن دستورنا، والرسول إمامنا، والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا»? ليطبع المرشد العام قبلة على جبينه، ويكافئه ببوصلة تهديه إلى مكان قبلة الصلاة أينما حل، فيذهب الطفل متباهيا ببوصلة المرشد وقبلته، إلى مقر الجماعة فى مدينة المحلة الكبرى، ويصر على إدراج اسمه فى كشوف الأعضاء "الكبار"، قبل أن يكون ذلك سببا في اعتقال "الطفل" بين من اعتقلهم نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فى العام 1954? لكنه لم يمكث في الحجز سوى يوم واحد، بعدما علم الضابط قصة إدراج اسمه بين كشوف الأعضاء "الكبار"، بينما هو لا يزال طفلا. وعن أيام شبابه الأولى، تقول زوجته، قرر تغيير مصيره، فتحول من طالب في المدرسة الثانوية الصناعية، إلى طالب بقسم الفلسفة فى كلية الآداب، قبل أن يتركه بعدما رأى أن مدرس الفلسفة "يقرأ من الكتاب" خلال المحاضرة، فتحول إلى قسم اللغة العربية.

 "تفجرت موهبته الشعرية مذ صغره حيث كان دائم الحصول على المركز الثانى فى المسابقة الشعرية بكلية الآداب، لأن المركز الأول كان محجوزا للشاعر الثائر زين العابدين فؤاد. تستعيد الدكتورة ابتهال يونس، ذكرياتها مع أبو زيد، عند إعدادها لأوراق بحث مقارنة فى رؤية العالم، عند ابن عربى والمتصوفة بصفة عامة، من جانب، والكاتب الأرجنتينى بورخيس، من جانب آخر، حيث قرأت له كتاب «فلسفة التأويل». لكنها تقول أن تقاربهما الحقيقى بدأ خلال مؤتمر "طه حسين" فى إسبانيا، حين أعجبت بالورقة البحثية التى قدمها أبو زيد، فاقتربت منه، وعرفته بنفسها، وعندما طلبت نسخة من الورقة، رد بابتسامة عريضة فيها من التواضع واللطف، ما جعلها تقترب منه أكثر، «كان يحترم المرأة فعلا، كثير من السيدات أو الآنسات كانوا يشعرون بالأمان مع نصر» تقول زوجته، حتى سألها ذات يوم، «ليه ماتجوزتيش لحد دلوقتى؟»? فردت: «بتسأل ليه؟ عندك عريس؟»? فيرد نصر مبتسما «أنا».

وعن الجانب الديني، الذي اتهم فيه أبو زيد، تقول زوجته: عندما دعي أبو زيد لحضور مؤتمر في ألمانيا، شهد هجوم "تسليمة نسرين" على الإسلام، أمام عدد كبير من الشيوخ، ولم يتصد أى منهم لها، سوى أبو زيد، الذى وصف هجومها بأنه ينم عن جهل بالدين الإسلامي. وفى محاضرة بهولندا، قال أحد الحضور الأجانب: «نقدر نعمل لكم إيه؟»? فأجابه أبو زيد: «حلّوا عن ديننا فقط».

تستحضر الدكتورة ابتهال ذكرياتها، وأبو زيد، مع شهر رمضان، ونحن على أعتابه، فتقول: كنت استغل صوته الأجش، لنقرأ معا جزءا من القرآن الكريم، قبيل صلاة المغرب، ليتما ختمته قبل نهاية الشهر، وفى كل مرة يقول مداعبا: «كفاية ريقى نشف»? لافتة إلى أن سورتي الرحمن والنجم، كانتا الأقرب إلى قلبه. وتضيف: زارني أحد تلامذته، بعد وفاته، وأهداني مصحفا شريفا، وقال لى: لم أجد أغلى من كتاب الله الذي أفنى أبو زيد عمره من أجله.

كان يجد في كلمات الشاعر صلاح عبد الصبور وصفا دقيقا لشخصيته: «أنا رجل من غمار الموالي، فقير الأرومة والمنبت، فلا حسبي ينتمي للسماء، ولا رفعتني لها ثروتي، ولدت كآلاف من يولدون، بآلاف أيام هذا الوجود لأن فقيرا بذات مساء، سعى نحو حضن فقيرة، وأطفأ فيها مرارة أيامه القاسية».

تشير إلى عشقه لملامح "تركيبة" شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام، إنسانيته ويتمه وفقره، وتلمح إلى قربه من فكر ابن رشد، وعبد القاهر الجرجاني مؤسس علم البلاغة، ثم تحكى عن محى الدين بن عربي، الذى تصفه بـ«ضرّتها»? إذ كان أبو زيد حريصا على حفظ كلماته، «لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي، إذا لم يكن دينه إلى ديني داني، وقد صار قلبي قابلا كل صورة، فمرعى لغزلان وبيت لأوثان، ودير لرهبان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن، أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني». «مشكلتنا كعرب في اعتقادنا بأن القرآن بتاع أبونا، رغم أن العرب أقلية وسط المسلمين»? مقولة لأبو زيد، لم تزل "رنتها" من أذن زوجته حتى اليوم، إلى جانب كلمات كثيرة، مثل قوله: «أنا حلقة في مشروع نهضوى بدأه ابن رشد وتبعه الطهطاوى ومحمد عبده وأمين الخولى وطه حسين»? «سيبوا الإخوان يعملوا حزب سياسي، سيبوا الشعب يتذوق الفاكهة المحرمة».

تؤكد الدكتورة ابتهال: لو كان أبو زيد عايش كان هيبطل صوته زي ما أنا عملت في جولة الإعادة، رغم أنه نشأ وتربى في حضن جماعة الإخوان المسلمين. تحفظ ابتهال يونس، كلمات صديق زوجها، الشاعر زين العابدين فؤاد، إذ يقول عنها، تحت عنوان "السكن تحت الجلد"، تتعب من السفر القريب والبعيد، تغير العنوان مع القمصان، تترك حيطان السكن تنفض عباية البدن، تلمح عينيك فتحة في جلد الإيد تضحكلها وتمر، شايله يمينك كتابك شايله الشمال "ابتهال" واللي اتسرق من العمر، نفسك دفا في رقبتي وعنيك تسابق كتابتي وتحط فصلة نسيتها ونقطة آخر السطر، ينده عليك الصحاب، ترجع فى صفحة كتاب، تنده عليك "ابتهال" ترجع في رد السؤال، ينده عليك الوطن، تركب حصان الزمن، وتعود علامة نصر.

 

لقائي بنصر حامد أبو زيد

في عام 1996 كنت أدرس الماجستير في معهد مقارنة الأديان بجامعة لايدن بهولندا. ومن ضمن برنامج الدراسة كانت استضافة أساتذة جامعات متخصصين من أنحاء العالم يحاضرون في الديانات المختلفة كاليهودية والمسيحية والإسلام.

في أحد الأيام كان الأستاذ المحاضر هو الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي مضى عليه قرابة عام منذ وصوله إلى هولندا كمنفى اختياره له ولزوجته. ابتدأ أبو زيد محاضرته عن فلسفة الكلام وتناول مسألة اللوح المحفوظ عند الله ، والذي يعد أحد الأسرار الإلهية التي وردت في القرآن الكريم. ثم عرج على تفسير معنى اللوح المحفوظ حسب رأيه واجتهاده.

ودعماً لرأيه في تفسير النصوص القرآنية ضرب مثلاً بالآية الكريمة ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) (النساء – 3).

وقال بأن الآية تشترط وجود أيتام لدى المرأة حتى يمكن اتخاذها زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة. وبدون ذلك فتعدد الزوجات غير مسموح به لقوله تعالى ( وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). وقد يؤيد الفقهاء قضية عدالة الزوج بين زوجاته وأهميتها في حفظ المنزل بعيداً عن المشاحنات والمشاكسات النسوية داخل البيت. أما اشتراط وجود يتامى للزوجة الثانية فهو أمر جديد.

بعد انتهاء المحاضرة فتح باب الأسئلة حول المحاضرة. وقد تصدى أحد الأساتذة الحاضرين وهو مستشرق هولندي فقال: إننا هنا نعمل بما نراه ونختبره من أمور عملية وقضايا واقعية سواء معاصرة أو من الماضي. فنحن ندرس نصوصاً مكتوبة ومجتمعات قائمة ، وهذا هو المنهج العلمي في الجامعات الأكاديمية. أما الحديث عن اللوح المحفوظ وأنباء الغيب وغيرها من الأسرار الإلهية فهذه ليست من اختصاصنا لأن غير قابلة للفحص Untestable وليست في متناول أيدينا حتى نناقشها. فهي من اختصاص اللاهوت والكليات والمؤسسات الدينية.

ثم توجهتُ إلى أبو زيد بمداخلة وسؤال فقلت: إن وضعك شرط وجود أولاد لدى الأرملة كي تصبح زوجة ثانية مجرد اجتهاد شخصي، أي أنها مجرد نظرية تحتاج إلى الاثبات بالقرائن الأخرى من النصوص القرآنية أو اجتهادات الفقهاء الآخرين.

وأضفت: من جانب آخر فإن السوابق التاريخية في عهد الرسول (ص) وصدر الإسلام وما بعده من دول إسلامية كان تعدد الزوجات أمراً عادياً وتطبيقاً لتشريع إسلامي نزل به القرآن الكريم. لقد مارس الصحابة والفقهاء والعلماء والقضاة والأمراء والخلفاء والناس العاديين تعدد الزوجات مع الاقتصار على أربع زوجات دائميات عدا الجواري أو الإماء اللائي لم يحدد النص القرآني عددهن. فهل أغفل الصحابة والفقهاء شرط وجود أيتام للأرملة أو المطلقة ؟ أم أنهم فهموا أن الشريعة لم تقيدهم بل أطلقت لهم الحرية في تعدد الزوجات عدا شرط العدالة في المأكل والكسوة والسكن والرزق. أجاب أبو زيد: إنما هو رأي رأيناه أقرب إلى روح النص والتشريع الإسلامي. وإن الآية تتضمن فعل الشرط (وإن خفتم ألا تعدلوا ) وجواب الشرط (فانكحوا ما طاب لكم). فالحكم مشروط بما قبله أي فعل الشرط.

 

بعد معرفتي بوجود أبو زيد معنا في نفس الجامعة ، صرت أتردد عليه في غرفته بكلية الآداب ، أو نلتقي في مكان آخر في الجامعة حيث ندردش في مختلف القضايا التاريخية والفكرية.

 

 في 30 مايس 1997 أقيمت ندوة فكرية بعنوان (المسلمون ورهانات التنوير) في مدينة روتردام. وقد حضرها المفكر المصري الدكتور حسن حنفي والدكتور نصر حامد أبو زيد. وبعد انتهاء الندوة تحدثت مع أبو زيد وقلت له: تناولت مسألة تأثر الفقيه بمحيطه وبيئته في استنباط الأحكام أو في تفسير النصوص. وهذا ما تحدث به وسبقكم إليه السيد محمد باقر الصدر في نهاية الخمسينيات عندما أكد في كتابه (اقتصادنا) على تأثر الفقيه والمجتهد بالبيئة المحيطة به. وأن أحكام التطهير بالماء تختلف لدى الفقهاء حسب توفر الماء في بيئتهم. فالفقيه في المناطق الجافه وقليلة الموارد المائية يكتفي بأقل ما يمكن في استخدام الماء. أما الفقيه في المناطق التي يكثر فيها الماء ولا توجد مشكلة ، فالفقيه يتوسع في كثرة الماء المستخدم في الطهارة. استحسن أبو زيد الكلام وعقب قائلاً: لم أطلع على هذا الرأي من قبل. وإن كان السيد الصدر قد سبقني إليه ، فهذه مزية أخرى تحسب له إضافة إلى مآثره الكبرى.

 

وفاته

في 5 تموز 2010 توفي المفكر نصر حامد أبو زيد اثر إصابته بفيروس غريب فشل الأطباء في تحديد طريقة علاجه. وكان قد دخل في غيبوبة استمرت عدة أيام في أحد مستشفيات مدينة 6 أكتوبر غرب القاهرة. وقد دفن جثمانه في قريته قحافة في طنطا.

 

مؤلفاته

•           الاتجاه العقلي في التفسير ، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة) وكانت رسالته للماجستير

•           فلسفة التأويل ، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي . وكانت رسالته للدكتوراه.

•           مفهوم النص دراسة في علوم القرآن.

•           اشكاليات القراءة واليات التأويل (مجموعة دراساته المنشورة في مطبوعات متفرقة

•           نقد الخطاب الديني

•           المرأة في خطاب الأزمة .

•           الخلافة وسلطة الأمة نقلة عن التركية عزيز سني بك (تقديم ودراسة نصر أبوزيد) .

•           النص السلطة الحقيقة ، مجموعة دراسات ومقالات نشرت خلال السنوات السابقة.

•           دوائر الخوف ، قراءة في خطاب المرأة (يتضمن الكتاب السابق المرأة في خطاب الأزمة).

•           الخطاب والتأويل (مجموعة دراسات، تتضمن تقدمة كتاب الخلافة وسلطة الأمة)

•           هكذا تكلم ابن عربي (يعيد فيها الباحث مراجعة دراسته عن ابن عربي).

•           الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية.

•           التفكير في زمن التكفير (جمع وتحرير وتقديم نصر أبوزيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته وردود الفعل نحوه.

•           القول المفيد في قضية أبوزيد (تنسيق وتحرير نصر أبوزيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته).

 


مشاهدات 508
أضيف 2023/02/04 - 4:53 PM
آخر تحديث 2024/09/26 - 5:43 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 1099 الشهر 39656 الكلي 10028278
الوقت الآن
الجمعة 2024/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير