كثيرون من الجيل الثقافي الجديد في بلادي لا يعرفونَ هذا الاسم؛ لكنَّ الذين عاصروا سنوات السبعينيات والثمانينيات يتذكرونَ الشاعر الشمولي والرهيف محمد زمان، ويتذكرون ملاحم قصائده الكربلائية الرصينة في النافذة الثقافية لجريدة العراق والتي كان يشرف عليها الأستاذ أحمد شبيب» أبو صارم» والذي كان صارماً بنشر النصوص الشعرية؛ الحبيب محمد زمان هو أيقونة كربلاء وضميرها الشعري بلا منازع، ومن معطفهِ البُني الحنون خرج تباعاً أدباء مدينة كربلاء الشباب في ذلك الوقت؛ كُنَّا نسعى كالصيصان إلى منزلهِ الكائن في زقاقٍ يهيمنُ عليه السكون؛ والقريب من الروضتين المقدَّستين؛ نحجُّ لمنزلهِ الوديع فرادى أو مجتمعين ونحنُ نحمل نصوصنا الخجولة بغية تصويبها من حيث الوزن الشعري واستبدال المفردة الركيكة بأخرى جزلة وتقويم الجملة المرتبكة حتى يدعها تضيء بشعاع موهبته المتفرّدة؛ وبرغم وضعهِ الصحي الحرج وصعوبة تنقلهِ نتيجة حادث موجع تعرَّض لهُ عندما كان في ريعان الشباب؛ إذْ اصطدمَ رأسه بحجر صلد أثناء الغطس في نهر الحسينية، مما سبَّب هذا الحادث إلى شللٍ نصفي في نخاعه الشوكي؛ لكنَّهُ لم يستسلم وظلَّ شغفهُ بالأدب والفن المسرحي ديدنهُ الأوَّل. أذكرُ أول مسرحية كتبها وكانت بعنوان «كلمات ورصاص» وقدْ شهدتُ عرضها على مسرح قاعة الإدارة المحلية في كربلاء حين كان عمري خمسة عشر عاماً، لفتَ نظري نحافة جسده وسماحة ملامح وجهه الطفولي فهو أشبه بقديسٍ يتحرَّك بمشقَّةٍ بالغة حاملاً حقيبة دبلوماسية سوداء، عرفتُ فيما بعد هي مستودع نتاجه الأدبي والفني وأسراره أيضاً. بعد مضي سنتين شهدتُ عرضاً مسرحياً جديداً من تأليفه أيضاً؛ وإذا بقلمي يكتبُ انطباعات نقدية عن ذلك العمل المسرحي. ذات ظهيرة طرقتُ باب منزله لأعرض عليه ما كتبت عن المسرحية، استقبلني بحذر وقرأ مقالي بتأنٍ وصبرٍ؛ رفع رأسهُ وتأمَّل وجهي لبرهةٍ ثم تساءلَ: من ينشر لفتىً بعمرك هذا المقال الذكي؟ أخذتني سنوات الدراسة ولحقتْ بها سنوات الحرب، وحين نشرت جريدة العراق أول قصيدة لي بعنوان «موَّال القرى» في عام 1982؛ طلب حضوري إلى منزلهِ عن طريق صديق يكتب الشعر هو الآخر، استقبلني بحفاوة وفرحٍ غامر، وأطرى على القصيدة كثيراً ممَّا دعاني إلى تقبيل يده الناعمة؛ فتوطَّدت أواصر الصداقة بيننا؛ في حين أغواني الشعر بسحرهِ فقررت الهروب من جبهة الحرب، لأختفي بمنزل أختي وأكتب مسرحية الشاعر والحرب التي نشرتها مجلة الطليعة الأدبية بعد سنتين؛ وبرغم معرفتهِ بفراري من الحرب لكنَّه شجعني على تقديم المسرحية بصحبةِ فتاةٍ نجيبةٍ وقد تبَّنى تكاليف المسرحية على نفقتهِ الخاصة مع أنَّه يعيش حياة الكفاف؛ عرضت المسرحية على خشبة مسرح حقي الشبلي في كربلاء وكان حاضراً مع جمعٍ من الأدباء والفنانين؛ بعد انتهاء عرض المسرحية قال جملتهُ المؤثرة: أنا مثل النهر لا يعنيني ما يحمله موجهُ؛ وكان يلمّحُ لتبني العمل برغم فراري من الجيش؛ إذْ روَّج بعض الحُسَّاد نبأ هروبي من الحرب. وحين قررت الفرار من البلاد كان أحد القلائل الذين أخبرتهم بعزمي هذا؛ باركَ قراري وأمضى ثلاثة أيام بتشكيل حروف نصوص مجموعتي الشعرية «شريعة النواب» حتى لا ألحنْ أثناء قراءة النصوص في الأماسي التي ستقام لي في الأردن؛ مازالت هذه النسخة من مجموعتي الشعرية تحمل خطوط قلمه الرصاص على كلماتها في مهجري البعيد. عندما زرتُ الوطن بعد سقوط الصنم؛ سألتُ عنهُ حتى اهتديت إلى مأواهُ؛ وجدتهُ في مقصفٍ شبه معتمٍ من بناية مهجورة كانت الأسواق المركزية فيما مضى؛ كان المقصف بالكاد يسع لجسده النحيف ولا يصلح لسكنى الإنسان؛ جلستُ معهُ لساعاتٍ طويلةٍ حاملاً معي هدية متواضعة ابتعتها من حانوت في كربلاء؛ حين قدمت الهدية؛ قلَّبها بفتورٍ وقال: لو كانت هديتك من أستراليا لكانت أجمل. فتملَّكني الحرج؛ تطرَّقَ خلال الحديث إلى صديقه محيي الأشيقر الذي كان في المهجر، سألتهُ إنْ كان لديه رقم هاتفه؛ فزوَّدني به؛ اتصلت بصديقه وتحدثا معاً لأكثر من ربع ساعة؛ خلال المكالمة أبدى الأشيقر رغبته بشراء عربةٍ جوّالةٍ تعينهُ على التنقل من مكانٍ إلى آخرٍ؛ فأجابهُ محمد زمان؛ وكيف أسير بهذه العربة وسط البهائم؟ قبل أنْ أغادر مأواهُ المقدَّس نصحني قائلاً: إيَّاك البقاء في العراق، أرجع إلى عائلتك في أستراليا؛ فالخراب سيكون أقسى؛ وهذا ما جرى للبلاد ومازال؛ قبل ليلتين انزلقتْ العبرات على وجهي هنا في مهجري البعيد؛ وأنا أرى تشييع جثمانه بين الحرمين المطهريَّن، كان النعشُ يبدو خفيفاً على أكتاف الذين حملوه؛ إذْ كانوا يسيرون بهدوءٍ وبلا عناءٍ نحو المرقد الحُسيني؛ لم يكنْ هناك من الأدباء والفنانين مع نعشهِ؛ فخمشني قلبي على هذا الجفاء منهم؛ لفتَ نظري غطاء النعش الذي كان من نسيجٍ أسود ومُوشَّى بقُبتي ومنائر المرقدين الشريفين وبلونٍ أخضر داكن مع الرايتين؛ ممّا أضفى على النعش هيبةً و وقاراً؛ كأنَّ الشاعر محمد زمان هو من اختار غطاء نعشه؛ أجلْ كانَ نعشُ قديسٍ محمولاً على أجنحة ملائكة الشعر.