الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
محمد‭ ‬زمان‭ ‬أَيْقُونة‭ ‬كربلاء

بواسطة azzaman

محمد‭ ‬زمان‭ ‬أَيْقُونة‭ ‬كربلاء

حسن النواب

 

كثيرون‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬الثقافي‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬بلادي‭ ‬لا‭ ‬يعرفونَ‭ ‬هذا‭ ‬الاسم؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬الذين‭ ‬عاصروا‭ ‬سنوات‭ ‬السبعينيات‭ ‬والثمانينيات‭ ‬يتذكرونَ‭ ‬الشاعر‭ ‬الشمولي‭ ‬والرهيف‭ ‬محمد‭ ‬زمان،‭ ‬ويتذكرون‭ ‬ملاحم‭ ‬قصائده‭ ‬الكربلائية‭ ‬الرصينة‭ ‬في‭ ‬النافذة‭ ‬الثقافية‭ ‬لجريدة‭ ‬العراق‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬يشرف‭ ‬عليها‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬شبيب‮»‬‭ ‬أبو‭ ‬صارم‮»‬‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬صارماً‭ ‬بنشر‭ ‬النصوص‭ ‬الشعرية؛‭ ‬الحبيب‭ ‬محمد‭ ‬زمان‭ ‬هو‭ ‬أيقونة‭ ‬كربلاء‭ ‬وضميرها‭ ‬الشعري‭ ‬بلا‭ ‬منازع،‭ ‬ومن‭ ‬معطفهِ‭ ‬البُني‭ ‬الحنون‭ ‬خرج‭ ‬تباعاً‭ ‬أدباء‭ ‬مدينة‭ ‬كربلاء‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت؛‭ ‬كُنَّا‭ ‬نسعى‭ ‬كالصيصان‭ ‬إلى‭ ‬منزلهِ‭ ‬الكائن‭ ‬في‭ ‬زقاقٍ‭ ‬يهيمنُ‭ ‬عليه‭ ‬السكون؛‭ ‬والقريب‭ ‬من‭ ‬الروضتين‭ ‬المقدَّستين؛‭ ‬نحجُّ‭ ‬لمنزلهِ‭ ‬الوديع‭ ‬فرادى‭ ‬أو‭ ‬مجتمعين‭ ‬ونحنُ‭ ‬نحمل‭ ‬نصوصنا‭ ‬الخجولة‭ ‬بغية‭ ‬تصويبها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الوزن‭ ‬الشعري‭ ‬واستبدال‭ ‬المفردة‭ ‬الركيكة‭ ‬بأخرى‭ ‬جزلة‭ ‬وتقويم‭ ‬الجملة‭ ‬المرتبكة‭ ‬حتى‭ ‬يدعها‭ ‬تضيء‭ ‬بشعاع‭ ‬موهبته‭ ‬المتفرّدة؛‭ ‬وبرغم‭ ‬وضعهِ‭ ‬الصحي‭ ‬الحرج‭ ‬وصعوبة‭ ‬تنقلهِ‭ ‬نتيجة‭ ‬حادث‭ ‬موجع‭ ‬تعرَّض‭ ‬لهُ‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الشباب؛‭ ‬إذْ‭ ‬اصطدمَ‭ ‬رأسه‭ ‬بحجر‭ ‬صلد‭ ‬أثناء‭ ‬الغطس‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬الحسينية،‭ ‬مما‭ ‬سبَّب‭ ‬هذا‭ ‬الحادث‭ ‬إلى‭ ‬شللٍ‭ ‬نصفي‭ ‬في‭ ‬نخاعه‭ ‬الشوكي؛‭ ‬لكنَّهُ‭ ‬لم‭ ‬يستسلم‭ ‬وظلَّ‭ ‬شغفهُ‭ ‬بالأدب‭ ‬والفن‭ ‬المسرحي‭ ‬ديدنهُ‭ ‬الأوَّل‭. ‬أذكرُ‭ ‬أول‭ ‬مسرحية‭ ‬كتبها‭ ‬وكانت‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬كلمات‭ ‬ورصاص‮»‬‭ ‬وقدْ‭ ‬شهدتُ‭ ‬عرضها‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬قاعة‭ ‬الإدارة‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬كربلاء‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬عمري‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً،‭ ‬لفتَ‭ ‬نظري‭ ‬نحافة‭ ‬جسده‭ ‬وسماحة‭ ‬ملامح‭ ‬وجهه‭ ‬الطفولي‭ ‬فهو‭ ‬أشبه‭ ‬بقديسٍ‭ ‬يتحرَّك‭ ‬بمشقَّةٍ‭ ‬بالغة‭ ‬حاملاً‭ ‬حقيبة‭ ‬دبلوماسية‭ ‬سوداء،‭ ‬عرفتُ‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬هي‭ ‬مستودع‭ ‬نتاجه‭ ‬الأدبي‭ ‬والفني‭ ‬وأسراره‭ ‬أيضاً‭. ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬سنتين‭ ‬شهدتُ‭ ‬عرضاً‭ ‬مسرحياً‭ ‬جديداً‭ ‬من‭ ‬تأليفه‭ ‬أيضاً؛‭ ‬وإذا‭ ‬بقلمي‭ ‬يكتبُ‭ ‬انطباعات‭ ‬نقدية‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬العمل‭ ‬المسرحي‭. ‬ذات‭ ‬ظهيرة‭ ‬طرقتُ‭ ‬باب‭ ‬منزله‭ ‬لأعرض‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬المسرحية،‭ ‬استقبلني‭ ‬بحذر‭ ‬وقرأ‭ ‬مقالي‭ ‬بتأنٍ‭ ‬وصبرٍ؛‭ ‬رفع‭ ‬رأسهُ‭ ‬وتأمَّل‭ ‬وجهي‭ ‬لبرهةٍ‭ ‬ثم‭ ‬تساءلَ‭: ‬من‭ ‬ينشر‭ ‬لفتىً‭ ‬بعمرك‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬الذكي؟‭ ‬أخذتني‭ ‬سنوات‭ ‬الدراسة‭ ‬ولحقتْ‭ ‬بها‭ ‬سنوات‭ ‬الحرب،‭ ‬وحين‭ ‬نشرت‭ ‬جريدة‭ ‬العراق‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬لي‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬موَّال‭ ‬القرى‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1982؛‭ ‬طلب‭ ‬حضوري‭ ‬إلى‭ ‬منزلهِ‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬صديق‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬الآخر،‭ ‬استقبلني‭ ‬بحفاوة‭ ‬وفرحٍ‭ ‬غامر،‭ ‬وأطرى‭ ‬على‭ ‬القصيدة‭ ‬كثيراً‭ ‬ممَّا‭ ‬دعاني‭ ‬إلى‭ ‬تقبيل‭ ‬يده‭ ‬الناعمة؛‭ ‬فتوطَّدت‭ ‬أواصر‭ ‬الصداقة‭  ‬بيننا؛‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أغواني‭ ‬الشعر‭ ‬بسحرهِ‭ ‬فقررت‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬جبهة‭ ‬الحرب،‭ ‬لأختفي‭ ‬بمنزل‭ ‬أختي‭ ‬وأكتب‭ ‬مسرحية‭ ‬الشاعر‭ ‬والحرب‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬مجلة‭ ‬الطليعة‭ ‬الأدبية‭ ‬بعد‭ ‬سنتين؛‭ ‬وبرغم‭ ‬معرفتهِ‭ ‬بفراري‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬لكنَّه‭ ‬شجعني‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬المسرحية‭ ‬بصحبةِ‭ ‬فتاةٍ‭ ‬نجيبةٍ‭ ‬وقد‭ ‬تبَّنى‭ ‬تكاليف‭ ‬المسرحية‭ ‬على‭ ‬نفقتهِ‭ ‬الخاصة‭ ‬مع‭ ‬أنَّه‭ ‬يعيش‭ ‬حياة‭ ‬الكفاف؛‭ ‬عرضت‭ ‬المسرحية‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬مسرح‭ ‬حقي‭ ‬الشبلي‭ ‬في‭ ‬كربلاء‭ ‬وكان‭ ‬حاضراً‭ ‬مع‭ ‬جمعٍ‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين؛‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬عرض‭ ‬المسرحية‭ ‬قال‭ ‬جملتهُ‭ ‬المؤثرة‭: ‬أنا‭ ‬مثل‭ ‬النهر‭ ‬لا‭ ‬يعنيني‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬موجهُ؛‭ ‬وكان‭ ‬يلمّحُ‭ ‬لتبني‭ ‬العمل‭ ‬برغم‭ ‬فراري‭ ‬من‭ ‬الجيش؛‭ ‬إذْ‭ ‬روَّج‭ ‬بعض‭ ‬الحُسَّاد‭ ‬نبأ‭ ‬هروبي‭ ‬من‭ ‬الحرب‭. ‬وحين‭ ‬قررت‭ ‬الفرار‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬أخبرتهم‭ ‬بعزمي‭ ‬هذا؛‭ ‬باركَ‭ ‬قراري‭ ‬وأمضى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬بتشكيل‭ ‬حروف‭ ‬نصوص‭ ‬مجموعتي‭ ‬الشعرية‭ ‬‮«‬شريعة‭ ‬النواب‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬ألحنْ‭ ‬أثناء‭ ‬قراءة‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬الأماسي‭ ‬التي‭ ‬ستقام‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬الأردن؛‭ ‬مازالت‭ ‬هذه‭ ‬النسخة‭ ‬من‭ ‬مجموعتي‭ ‬الشعرية‭ ‬تحمل‭ ‬خطوط‭ ‬قلمه‭ ‬الرصاص‭ ‬على‭ ‬كلماتها‭ ‬في‭ ‬مهجري‭ ‬البعيد‭. ‬عندما‭ ‬زرتُ‭ ‬الوطن‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الصنم؛‭ ‬سألتُ‭ ‬عنهُ‭ ‬حتى‭ ‬اهتديت‭ ‬إلى‭ ‬مأواهُ؛‭ ‬وجدتهُ‭ ‬في‭ ‬مقصفٍ‭ ‬شبه‭ ‬معتمٍ‭ ‬من‭ ‬بناية‭ ‬مهجورة‭ ‬كانت‭ ‬الأسواق‭ ‬المركزية‭ ‬فيما‭ ‬مضى؛‭ ‬كان‭ ‬المقصف‭ ‬بالكاد‭ ‬يسع‭ ‬لجسده‭ ‬النحيف‭ ‬ولا‭ ‬يصلح‭ ‬لسكنى‭ ‬الإنسان؛‭ ‬جلستُ‭ ‬معهُ‭ ‬لساعاتٍ‭ ‬طويلةٍ‭ ‬حاملاً‭ ‬معي‭ ‬هدية‭ ‬متواضعة‭ ‬ابتعتها‭ ‬من‭ ‬حانوت‭ ‬في‭ ‬كربلاء؛‭ ‬حين‭ ‬قدمت‭ ‬الهدية؛‭ ‬قلَّبها‭ ‬بفتورٍ‭ ‬وقال‭: ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬هديتك‭ ‬من‭ ‬أستراليا‭ ‬لكانت‭ ‬أجمل‭. ‬فتملَّكني‭ ‬الحرج؛‭ ‬تطرَّقَ‭ ‬خلال‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬صديقه‭ ‬محيي‭ ‬الأشيقر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المهجر،‭ ‬سألتهُ‭ ‬إنْ‭ ‬كان‭ ‬لديه‭ ‬رقم‭ ‬هاتفه؛‭ ‬فزوَّدني‭ ‬به؛‭ ‬اتصلت‭ ‬بصديقه‭ ‬وتحدثا‭ ‬معاً‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬ساعة؛‭ ‬خلال‭ ‬المكالمة‭ ‬أبدى‭ ‬الأشيقر‭ ‬رغبته‭ ‬بشراء‭ ‬عربةٍ‭ ‬جوّالةٍ‭ ‬تعينهُ‭ ‬على‭ ‬التنقل‭ ‬من‭ ‬مكانٍ‭ ‬إلى‭ ‬آخرٍ؛‭ ‬فأجابهُ‭ ‬محمد‭ ‬زمان؛‭ ‬وكيف‭ ‬أسير‭ ‬بهذه‭ ‬العربة‭ ‬وسط‭ ‬البهائم؟‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬أغادر‭ ‬مأواهُ‭ ‬المقدَّس‭ ‬نصحني‭ ‬قائلاً‭: ‬إيَّاك‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬أرجع‭ ‬إلى‭ ‬عائلتك‭ ‬في‭ ‬أستراليا؛‭ ‬فالخراب‭ ‬سيكون‭ ‬أقسى؛‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬للبلاد‭ ‬ومازال؛‭ ‬قبل‭ ‬ليلتين‭ ‬انزلقتْ‭ ‬العبرات‭ ‬على‭ ‬وجهي‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬مهجري‭ ‬البعيد؛‭ ‬وأنا‭ ‬أرى‭ ‬تشييع‭ ‬جثمانه‭ ‬بين‭ ‬الحرمين‭ ‬المطهريَّن،‭ ‬كان‭ ‬النعشُ‭ ‬يبدو‭ ‬خفيفاً‭ ‬على‭ ‬أكتاف‭ ‬الذين‭ ‬حملوه؛‭ ‬إذْ‭ ‬كانوا‭ ‬يسيرون‭ ‬بهدوءٍ‭ ‬وبلا‭ ‬عناءٍ‭ ‬نحو‭ ‬المرقد‭ ‬الحُسيني؛‭ ‬لم‭ ‬يكنْ‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين‭ ‬مع‭ ‬نعشهِ؛‭ ‬فخمشني‭ ‬قلبي‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الجفاء‭ ‬منهم؛‭ ‬لفتَ‭ ‬نظري‭ ‬غطاء‭ ‬النعش‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نسيجٍ‭ ‬أسود‭ ‬ومُوشَّى‭ ‬بقُبتي‭ ‬ومنائر‭ ‬المرقدين‭ ‬الشريفين‭ ‬وبلونٍ‭ ‬أخضر‭ ‬داكن‭ ‬مع‭ ‬الرايتين؛‭ ‬ممّا‭ ‬أضفى‭ ‬على‭ ‬النعش‭ ‬هيبةً‭ ‬و‭ ‬وقاراً؛‭ ‬كأنَّ‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬زمان‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬اختار‭ ‬غطاء‭ ‬نعشه؛‭ ‬أجلْ‭ ‬كانَ‭ ‬نعشُ‭ ‬قديسٍ‭ ‬محمولاً‭ ‬على‭ ‬أجنحة‭ ‬ملائكة‭ ‬الشعر‭.   ‬


مشاهدات 880
أضيف 2022/11/21 - 4:15 PM
آخر تحديث 2024/11/22 - 2:11 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 257 الشهر 9381 الكلي 10052525
الوقت الآن
الجمعة 2024/11/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير