ماذا ينتظرنا في 2025 ؟
منقذ داغر
5.خليفة المسلمين!
قلت في المقال السابق لأن هناك مشروعاً تركياً-عثمانياً في طور التشكل وذكرت ما صرح به الرئيس أردوغان عام 2011 عن أهمية الأرث العثماني له. لقد كان لافتاً لكثير من المراقبين أن أردوغان زار ضريح السلطان سليم الأول في 2017 مباشرةً بعدما نجح حزبه بتمرير التعديلات الدستورية التي أتاحت له الترشح مجدداً للرئاسة التركية. كما كان لافتاً قبل ذلك أختياره أسم سليم الأول من دون كل سلاطين الدولة العثمانية السبعة والثلاثين ليطلق على أحدث جسر يمر فوق البسفور في 2016! فما هو المميز بسليم الأول؟ لقد أشتهر سليم الأول بأنه أول من ضم لقب خليفة المسلمين الى لقب السلطان العثماني بعدما أطلقت الجيوش العثمانية حملتها الشرق أوسطية فأحتلت مكة والمدينة المنورة في 1517 فضلاً عن احتلال كل ما بات يعرف بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا لاحقاً ليشكل أكبر إمبراطوريه عرفها العالم ويقطع طرق الاتصالات عن طريق الحرير في أيران وعن البرتغاليين في الخليج العربي وعن الأوربيين في شمال أفريقيا. لقد مثل نقل الكنوز النبوية والإسلامية الثمينة من مكة والمدينة المنورة الى إسطنبول أعلاناً لحقبة الإمبراطورية الإسلامية العثمانية التي تعني لإسلاميي هذا العصر آخر قلاع وتطبيقات الدولة الأسلامية عابرة الحدود.
خطوط الملاحة
وبذلك أصبح سليم الأول ليس الحاكم لأكبر أمبراطورية حسب، بل خليفة المسلمين ،والمتحكم بالأقتصاد العالمي وخطوط الملاحة الدولية.
وتكمن المفارقة التاريخية في أن سليم الأول بدأ حملته العسكرية تلك في عام 1516 بمعركة مرج دابق التي استولى فيها العثمانيون على حلب! ويالها من صدفة عجيبة أن ينطلق قطار المشروع التركي الحالي من نفس المحطة التي أنطلق منها المشروع العثماني القديم!!
صحيح أن العَلَم الذي يسير قطار المشروع التركي الجديد تحته يختلف عن علم المشروع العثماني القديم،وصحيح أن الظروف الدولية والآليات التي أعتمدها المشروعَين تختلف في كثير من جوانبها،لكن أهم صفة تجمع بين المشروعَين هي صفة المشروع الإسلامي العابر للحدود. إذ أن من يقود المشروع السياسي التركي هم أسلاميو تركيا وبدعم من الأسلام السياسي (غير الجهادي) في العالم.
لا بل أن من يقرأ جيداً تاريخ السلطان سليم الأول (خليفة المسلمين) يجد تشابهاً كبيراً بين شخصيته البراغماتية وتحالفاته ومناوراته السياسية مع شخصية أردوغان وطريقته في أدارة الحكم.
لكن في الوقت الذي أعتمد فيه سليم الأول أكثر على قدراته العسكرية في أنشاء مشروعه فأن الرئيس أردوغان يعتمد على عدد من الاستراتيجيات السياسية-العسكرية-الاقتصادية لبناء مشروعه الاستراتيجي. لقد أستثمر ظروف ثلاث أحداث سياسية رئيسة لتطوير مشروعه هي:
أ.احتلال العراق. على الرغم من أن أردوغان لم يظهرإعلامياً على الأقل -مثلما فعلت إيران مثلاً- كلاعب رئيس في عراق ما بعد الأحتلال، الا أنه كان لاعباً مستتراً مهماً.
فرفضه لاستخدام أراضيه من قبل الجيوش الأمريكية عند غزوها العراق في 2003 رغم أنه جزء أساس من حلف الأطلسي أرسل رسالة للمسلمين في العالم أنه ليس تابعاً لأمريكا. كما أن استثماره لانهيار الدولة العراقية للتوغل في شمال العراق وإقامة علاقات عسكرية-اقتصادية-سياسية مع مختلف الأطراف العراقية(المتناحرة أحياناً) أرسل رسالة قوية للداخل التركي من جهة وللجوار الإقليمي من جهة ثانية وللاعبين الدوليين من جهة ثالثة بخصوص أهمية الدور التركي في العراق.
متينة وجميلة
وأذا كان الحائك الإيراني قد نسج سجادة «كاشان» متينة وجميلة،لكنها باهضة الثمن ومن لون واحد،لشبكة علاقاته في المنطقة ،فقد عمد الأتراك الى نسج «فسطاطيّة» عثمانية جميلة ومتينة ومنوعة الألوان (تركمان وعرب وكرد) ومنخفضة الثمن نسبياً، لشبكة قوتهم الناعمة والخشنة في المنطقة. وقد استفادوا منها كثيراً ليس فقط خلال العقدَين الماضيين بل الأهم أنهم أستثمروها حين لاحت اللحظة التاريخية المهمة في 27 نوفمبر/ ت2 2024 .
ب.الربيع العربي. أدرك الأتراك بسرعة أن الربيع العربي يمثل فرصة مهمة لتوسيع نفوذهم في المنطقة بخاصة وأن جماعات الأسلام السياسي التي تربطها بأنقرة علاقة وثيقة، قد شاركت فيه في مختلف دول المنطقة وبفاعلية. ومثلما فعلت في العراق فقد أستخدم «الباب العالي» مزيج من القوى الناعمة والخشنة للتأثير في دول مثل ليبيا وسوريا وتونس وحتى مصر. لكن الإستثمار الأهم كان في سوريا حيث استضافت تركيا ما يناهز 4 مليون لاجئ سوري،وساعدت على تنظيم جماعات سورية منشقة على النظام،بل ودخلت بقواتها الى الشمال السوري لإنشاء منطقة عازلة تابعة لتركيا تم استثمارها فيما بعد للانطلاق نحو أسقاط نظام الأسد مؤخراً. هذا فضلاً عن أستثمار الممر التركي للمهاجرين العرب لأوربا للمساومة على مكاسب كبيرة من أوربا .
كما حصل في الأتفاق التركي الأوربي في 2016 والذي أعاد تذكير أوربا بأهمية تركيا وقدرتها على التأثير ليس في جوارها الشرقي والجنوبي بل في جوارها الأوربي أيضاً.
ت.الحرب الروسية الأوكرانية. مرة أخرى أثبت أردوغان قدرته الفريدة على المناورة السياسية واستثمار التهديدات الأستراتيجية لتحويلها لفرص أستراتيجية وروافع سياسية كبيرة. لقد أتاحت الجغرافية السياسية لتركيا فضلاً عن علاقاتها المتميزة مع روسيا وأوكرانيا موقفاً فريداً لتلعب دور الوسيط الوحيد الممكن بين البلدَين المتقاتلَين. وكم كان غريباً أن تلعب دولة أطلسية رئيسة مثل تركيا دور الوسيط بين الخصم الرئيس لحلف الأطلسي(روسيا) وأحد الدول الطامحة للأنضمام للأطلسي والتي كلفها طموحها هذا عداوة وهجوم روسيا عليها!!وقد تم تتويج الوساطة التركية بأتفاقية الحبوب التي رفع كل العالم بلا استثناء القبعات لتركيا لقدرتها على أبرام تلك الصفقة التي جنّبت العالم وبخاصة دوله النامية أزمة غذاء عالمية شديدة. الخلاصة فأن تركيا ورغم مشاكلها الأقتصادية الجمة،تمكنت بحنكة أستراتيجية من بناء شبكة علاقات تجعل من أطرافها الأخرى تفكر مئة مرة قبل أن تغضِب «الباب العالي».
لقد تمكنت تركيا من خلال هذا المزيج الفريد من السياسات البراغماتية السابقة في اللحظات التاريخية الثلاث الفارقة، من إحكام قبضتها وقوتها الناعمة على اللاعبين الرئيسيين في المشهدَين الإقليمي والدولي (أوربا وروسيا وأمريكا). وتم استثمار كل ذلك في لحظة 27 نوفمبر 2024. إذ لم يكن ممكناً لحملة المعارضة السورية أن تنجح ضد نظام الأسد لولا دعمها تركياً. ولم يقتصر الدور التركي على تنظيم وتسليح المعارضة السورية وتوفير قاعدة الانطلاق لهم عسكرياً،بل أمتد ذلك الدور لاستثمار القوة السياسية التركية لحسم المعركة لصالح الجماعات المسلحة السورية المعارضة للنظام. وهذا ما أفصح عنه وزير الخارجية التركي حينما أشار الى الاتصالات التركية بكل من روسيا وإيران لأقناعهما بأن مساعدتهما لنظام الأسد كما حصل في 2015-2016 لم تعد ممكنة هذه المرة. وهكذا بتنا أمام حقائق استراتيجية جديدة ولحظة تاريخية حاسمة لصراع المشاريع الثلاثة التي فصّلتها في هذه السلسلة (الأيراني،الأستيطاني والعثماني) فمن سينتصر في النهاية؟ وماهي تبعات ذلك في 2025؟ ستتم معالجة ذلك في المقال القادم.