مهدي محمد علي .. الصورة المؤجلة من الذاكرة
جاسم عاصي
التعامل مع مفردات الذاكرة في الشعر؛ تتطلب مهارة فائقة . مهارة ليس في التذكر كسياق،وإنما في تجسيد الإيقاع الذي تتمثل طيفها المفردة المستدعية . وما نرمي إليه من هذا الاستهلال،هو التعامل مع الذاكرة من باب البُعد الصوفي الذي يؤسس لرؤى لها محمولات غير تقليدية،وإن بدت مألوفة . فالمألوف يحمل معه مستتر،والشعر الذي نعنيه هو ما تكون له محمولات ظاهرة وأخرى نستدل عليها من البساطة نحو المضمر من المعنى،أو ما اصطلح عليه (السهل الممتنع ) والشاعر ( مهدي محمد علي) في قصائده المختارة من قبل الشاعر ( عبد الكريم كَاصد) خير دليل على ما نراه . و( كَاصد) كما بدا لنا حاول اختيار القصائد بحس نقدي وشعري . لأنها حاملة لذات السمة الأكثر تلقائية وبساطة،والأكثر عمقاً في الدلالة،ومتواصلة مع بنائية الشعر. فللشاعر حسه الشعري في الاختيار،لأنه استهل المختارات بمقدمة مهمة،وختمها بدراسة منجزة سابقاً .وهي محمّلة بقراءة حفرية مبكرة. هذا من جهة،ومن جهة أخرى،ما كان له تأثير مباشر المجسد في الرفقة التي شهدت حياة الاثنين حتى لحظة هروبهما من الوطن قسراً . وهذا ما أتاح له فرصة المزج بين الاختيار ومعرفة شخصية الشاعر . من هذا نرى أننا عبر المختارات أمام درس شعري، له مواصفات خاصة . صحيح أن مثل هذه الحساسية الشعرية قد توّفرت عند شعراء آخرين،لكن ما يجمعهم هو كوّنهم من بيئة واحدة وهم ( سعدي يوسف ، عبد الكريم كَاصد ، مصطفى عبد لله ) والذي يجمعهم شعرياً بساطة الطرح ،وعمق التركيب الشعري ذي المفردات والعلاقات الشعرية الدالّة،ثم مشغولية الشعر في الوقوف اتجاه ما هو حائل أمام الطموحات،ومنها الاستقرار في مهد الذاكرة ( الوطن) والذي يفرّقهم هي الكيفية التي يتعامل كل واحد منهم مع هذه الظاهرة،ونعني بها الاغتراب عن المكان . فالرؤى تتكيّف للمعرفي،والمعرفي لديهم مختلف وإن اقترب بالخط العام. وطبيعي كان توزعهم في أصقاع بلدان المهجر ، قد وضعهم أمام جملة تجارب مختلفة،ومصادر جديدة للمعرفة، وكيفيات الخلاص من مآزق الحياة .غير أن مثل هذه المعرفة لم تأخذ بهم بعيداً عن رؤية صورة الوطن على وفق كيفيات مختلفة . ودليلنا على هذا كثير،لعل قصيدة الشاعر ( سعدي يوسف ( الطيطوي ) وقصائد الشاعر ( عبد الكريم كَاصد ) التي تتعامل مع الواقع العراقي المعاش برؤى تراجيدية موّظفه لذلك الموروث،ثم ما قدمه الشاعر ( مصطفى عبد الله ) في ديوانه ( مكاشفات ما بعد الرحيل) . و(مهدي محمد علي) رابع المهاجرين له رؤاه وكيفياته في التعامل .
الخصائص والسمات
الشاعر ــ كما ذكرنا ــ له توجهاته الفنية النابعة من رؤاه لطبيعة الاغتراب، في ما يخص التعامل مع الظاهرة شعرياً . فهو شاعر مسكون بالتذكر،ومبتلى بالربط بين ما يعيش ، وما كان يعيش . فالمكان الحاضن يُذكره بالأمكنة الأولى،بسبب ضغط الحنين الذي تجسّد أكثر في صورة الأم . لذا نجد في شعره خاصية التلقائية التي تسم قصائده . فهو لا يتوّفر على فضاءات مربكة تُبعده عن الصورة الحيّة عن غرض القصيدة . أو بالأحرى لا يُبعد الصياغة الشعرية عن مناخ تُحدده مشاعره هادئة الطرح، فالذات المحتفظة بسر انفعالاتها النفسية هي التي تؤثر على مسار الشعر . إن الحس النفسي (التجربة النفسية جرّاء الغربة) شيء والشعر شيء آخر .ذلك لأنه ــ أي الشعر ــ مرهون للزمن الذي يُحسبه الشاعر مهما تقادم الزمن،وتغيّرت المعايير . فالتغيّر لا يؤثر على بنية الذاكرة،لأنه في الزمان والمكان تُأثيره أكثر مما يرى ويسمع ويُدرك،عبر المقارنة أو الإثارة التي تُعيد صورة الماضي للمقارنة . وهذه التركيبة النفسية هي القاسم المشترك للمهاجر . فالتاريخ المتشعب إلى أسري ومجتمعي وفكري ما يُحفّز الذاكرة على الاستعادة .إن الفحص لشعر ( مهدي) يتطلب النظر إلى أكثر من خاصية،لكي يكون بالإمكان اجتماع خاصية مركزية لشعره،الذي هو ؛ شعر بسيط وتلقائي وذو محصلة تراجيدية،تقود إلى المبنى الفكري من خلال المعنى المباشر والمضمر . كما وأنه يعمل على إناطة وظيفة للشعر،هي التطلع في ما يصعب التطلع إليه كمشاع في الوجود . بمعنى يُعمّق المباشر بما يمنحه من تلقائية شعرية ، بعيداً عن الصناعة والافتعال ،ى مما يقود إلى تحريك ما هو كامن وراء هذا السهل من الشعر،لاسيّما رنين القافية على سبيل المثال . فهو يستغني عنها كثيراً،مستبدلاً إياها بإيقاع الكلام الشعري ومعانيه التي بتركيباتها الشعرية تُحيل إلى الأبعد في السياق . فمفردته منتقاة وجملته فائقة البناء . وأرى أن وراء هذه الخاصية في كتابة الشعر تكمن المهارة الشعرية . فمهارته تتجسد من خلال الانسجام مع بنيته الرؤيوية والمعرفية،ومع مزيجه الذاكراتي،مما يُتاح له تغيير مسار الرؤى باتجاهات مختلفة،لكنه لا ينأ عن وحدة القصيدة وتراصّ مبناها،باتباع تكثيف صارم ، لاسيّما في قصائده القصار التي تذكرني بأقوال وانثيالات ونصوص الحكيم الآشوري ( إحيقار) .
إن الشاعر وهو يتعامل مع بينة تنتمي بشكل أو آخر إلى بنية فكرية،بسبب انتمائها إلى حراك خلق أسباب ومسبات وظواهر خارج المنطق،ومنها الهجرة وترك الإرث في الوطن . إنه نوع من قطع الموصل للجنين في رحم الأم . إن قسره ذي وقع فائق القسوة . لذا نجده كشاعر لا يتعامل مع بنية فكرية مباشرة،مثلما يتعامل بعض الشعراء بجاهزية التعبير في الشعر التعبوي . إنه يُحيل البنية الفكرية من خلال تحميلها جمالية شعرية،وتلقائية ذات نفَس طبقي ، يُدرك المأساة والتراجيديا عبر أبسط الظواهر . كما سنجد في صياغاته لتناول العلاقة المتخيلة للأم،فهي بسيطة لكنها عميقة الدلالة والوقع . وذات رؤى أسطورية،تتبع إيقاع العلاقة الرحمية بالأم . إنه شاعر مرشَحْ من بينة فكرية منتمية لقاع الحياة . ولعل تكرار مفردات بيئية توحي وتومئ لذلك الانتماء للأسرة والمجتمع والحياة المدنية .
بنية المكان
أما ما يخص المكان،فهو كأقرانه الشعراء الثلاثة ، يستحضر بنية المكان على طول خط الشعر . إنه لا يعيش خارج المكان ، بمعناه المركزي ؛ مكان الطفولة والصبا والشباب،والخراب السياسي والاضطهاد . كل هذه التوصيفات اقترنت بالمكان المستعادة صورته في الشعر. غير أن مرشحة الشعر خير من ينقيه من الشوائب الطارئة عليه،والتشبث بالحلم والصورة المرتقبة . وهذا جزء من الحنين للوطن بصورته النقية،بعيداً عن عبث الإنسان في تشكلاته وصوّره الجميلة . فالناظر إلى الوطن من على بُعد،تحضره صورة النقاء،وليس في ما يرى فيه . لذا نجد أن شعر ( مهدي) يتعامل مع صورته في المخيلة والتصوّر بجمالية فائقة،ولا تحضره في القصيدة الأسباب والمسببات،لأنها من مشغوليات السياسي وذي الحماس العقائدي . بينما الشاعر مشغول بترميم ما انكسر .إذ من الملاحظ على مجمل القصائد في المختارات كوّنها كُتبت في خارج الوطن ، باستثناء العدد القليل المشترك بين البصرة ودمشق . ولهذا تخريج يخص الحس الشعري الذي بني على أساس البُعد عن المكان،بحضور جملة مشاعر دائمة ومتشبثة بالتذكر والحنين.
رؤى الشعر ومجسّاته/
ما ذكرناه من خصائص ، غير نهائية . فالشعر بما يُقرأ . لهذا سنحاول الدخول إلى عالم القصائد بعدة خلقها شعره . وحفزتها قراءات الشاعر ( عبد الكريم كَاصد) في المختارات .
ففي قصيدة ( لقطات من مدينة تعانق ماء النهر) ثمة سمات في تركيب اسطورة المكان،من خلال التعامل مع الحيوات . ابتداء من الأطفال وهم يصعدون إلى الباص . فالعتبة الأولى للقصيدة ذات محمولات شعبية أسطورية من خلال توائم النهر والمدينة . فالمدن القديمة والشهيرة نشأة بمحاذاة الأنهار ، فاستحقت وجوداً حضارياً . فالعنوان يبدو فيه نوع من التقريرية في (لقطات ، مدينة ) لكنه يتشبث بجملة أخرى أكثر ثراء أسطورياً ( تعانق ماء النهر) وللعناق هنا سمة توّدد وتقرّب والتصاق وصلة بالموروث كما ذكرنا . فكيف تكون المعانقة مع جسد الماء؛إن لم تكن تتوّفر على الاخصاب والانبعاث . والأنهار في بيئة الشاعر ( أبي الخصيب) قيمة أسطورية كما وجدناها عند الشاعر( طالب عبد العزيز ) سواء في شعره أو كتابه ( قبل خراب البصرة) هذه القيمة الأسطورية منحها الشاعر ( مهدي) حيوية،فجعلها ( تعانق) وهي مفردة دالّة على الفراق ثم اللقاء . وهو نوع من اسقاط حال لحس مضمر . والسؤال الشعري هنا : كيف كان العناق يا ترى ؟ الإجابة معروفة،غير أننا نبحث عنها في سياق القصيدة :
{ إلى ( الباص)
يصعد أطفال بابل
مثل الشياطين
مثل المساكين
لا يدفعون النقود
ولكنهم يملأون مؤخرة ( الباص) }
هذه صورة من القصيدة ، تتطلب الوقفة . فهم يركبون . وهذا أمر طبيعي،قد يذهبون إلى المدرسة ، لكننا نسأل لِمَ ( أطفال بابل ) ؟ وهنا تكمن الدلالة في اختيار النوّع ، هو الذي يقرّبها من المبنى الأسطوري كما نرى . ثم نجدهم ( شياطين،مساكين ) وهي مفردات لتحبيب صورتهم في المبنى الشعبي وللتدليل. ثم أن العلاقة بين ( لا يدفعون نقوداً ) و ( ولكنهم يملؤون مؤخرة الباص) تُثير ليس الشفقة،بقدر ما تؤكد الاقصاء والتفاوت الطبقي،خاصة في مفردة ( يملأون) فكثرتهم دليل أحقية وجودهم . أما ما يُعمق الدلالة الأسطورية؛فيكون في المقطع الثاني :
{ وفي السوق ذات ظهيرة
رأيت فتاة
على الأرض تعرض للبيع تمراً رديئاً
ووجهاً جميلاً }
وفي هذا شيء من التمري في صورة الفتاة التي جمع في مشهد وجودها صفتين ( تمرأ رديئاً ) و(ووجهاً جميلاً) ولعلنا نُبصر الصورتين،لأنهما مقارنتين لبعض في الوجود المادي . فالفتاة حاضرة،والتمر حاضر أمامها،غير أن المغيّب هو الإشارة إلى الفارق الذي تأتي به الأسطورة المقارنة بين ( الرداءة والجمال) والذي تُشير إلى أسطورية وجود الفتاة هو التعبير الدقيق العاكس لحدث اختفاء الفتاة :
{ ومرت دقائق / فوجئت أن الفتاة اختفت ! }
ولعل علامة التنقيط ما يؤكد مثل هذا المبنى . لأن الاختفاء المفاجئ طيفي ينتمي إلى الأسطورة أكثر من انتمائه إلى الواقع .
ويتكرر هذا أيضاً في مقطع ( العشر بنات) أمام موّقع المكتبة . ثم بتكرار الصوّر بين البنات وطالبات المدرسة،تنشأ البنية الأسطورية في المشهد في :
{ من يشتري الخبز ؟
من يلمس الخبز كي يفهم الكتب ؟!
من يقرأ الكتب كي يعرف الخبز ؟!
ــ من يشتري الخبز ؟ منْ ؟
ــ أه ــ صبحة ــ لو كنت في المدرسة ! }
ولعل هذا الحراك الشعري،يُذكرنا بعنوان كتاب ( ديوان الشعري السومري / ترجمة قاسم الشوّاف / أعطني .. أعطني ماء القلب ) وفي السياق الشعري ما بعد العتبة تبرز قيمة الخبز في الأساطير،وعلاقتها بالإله الشاب ( دموزي) من خلال نبات الحنطة .كذلك قول يسوع(خذوا دمي شراياً ولحمي خبزاً) دلي على ما نذكره.
وفي القصيدة ثمة صلة بين البنات والخبز . فلحسرة قد أدمنتها البنات،بسبب الفارق الاجتماعي الذي وقع عليهنَّ فوّضعهنَّ في الموّضع الصعب من الحياة، هو هامشها المتروك للزمن. وبهذا نجد الشعر يتعامل مع هذه الحالات تعاملاً فيه حساسية طبقية وفئوية . بمعنى يعمل على ادراك العمق الدلالي في الشخصية عبر ادراك احساسه بوّقع المأساة عليها . ويتم هذا بعيداً عن التهويل لمثل هذا الإحساس المفرط في تغييب الحقوق البسيطة منها .كما وأنه يتعامل مع الزمن من موّقع المؤثرالتأثير والأثر . فالأثر المتروك على بينية الشخصية النفسية هو الدليل على عظمة الواقع للزمن بكل ثقله . وهذا لا يتجسّد سوى بالمفردات البسيط،والجملة بسيطة التركيب والبلاغة . غير أن بلاغتها تكمن في الذاتية المتخلصة من ظاهرة التمسكن والضعف . فنماذجه يتصفون بكبرياء عالي،وسمو روحي واضح على سلوكها . إذ يندر أن نجد ذات معذبة تضعف أمام العناصر المسببة لعذابها . فهي تحتفظ بعزة النفس المستوحاة من الموّقع الطبقي الموروث عن الأقربين . أو هي استجابة جينية ومكتسبة .
إن سر تلقائية النفَس الشعري في قصائده هو اقترابها من اليومي والمألوف والمتماسّ مع مفردات حياته العابرة إلى حياة الاخرين وإن بًعدوا عنه جغرافياً،إلا أنهم شكّلوا مؤثراً على وجوده كشاعر وعراقي مُبعد عن وطنه بالقسر . إن إحساسه المفرط بهذه المسافة التي تُبعده عن مهد ذاكرته هو الذي عبأ وجدانه بهذا النوع من الشعر التلقائي ذي الوقع التراجيدي البحت..فاليومي لديه ولدى أقرانه الذي يتغذى منه الشعر، هو ما يقود إلى جمال وعمق الشعر . أما الغنائية التي سار عليها شعره كنسق مؤثر،فهو متأتي أيضاً من البساطة والتلقائية . فالحياة بما تمتلكه من إيقاع يتسرب بالتأكيد إلى الشعر باعتباره يمتلك مساحة الاحتواء لمثل هذا الحس الوجداني . ففنيته مكتسبة من غنائية الظواهر المنبعثة من مسار الزمن بكل مكوّناته المأساوية،ـومن تلقائية الذات الشعرية المتطبعة على الرؤية الصافية . فالتعقيد الذي شمل وجوده الملتبس،لم يتح له مجال اسقاط ظواهره على الشعر . لعل الذات الصبورة المنبعثة من حساسيته الشعرية دفعته إلى الجروف المحتفظة بروح التأني والكبت الوجداني،مع فسح المجال للشعر الصافي والرائق أن يظهر للوجود كوسيلة تعبير عما يكبته وجدانه.
حالات الشعرية /
في قصيدة ( البئر) ثمة حس أسطوري يحتوي فضاءها . وهذ الحس متأتي ومتأثر بكامن الأسطورة حصراً،عبر (البئر،الصندوق ) وكلاهما لهما محمولات يُشكّل الغموض نسقاً لهما . فالبئر من احتوى جسد ( يوسف) وهو (غيابة) كما وصفه القرآن الكريم ( في غيابة الجب) وهو محمول أضفى على شخصية ( يوسف) سحرية أخرى غير سحر أسطورة نبات ( اللّفاح) الذي خصّب رحم (راحيل) حسب التوراة في سِفر التكوين . وهو اي البئر حافظ للأسرار ، لذا أودعه أخوته فيه ولم يقتلوه تحقيقاً للمسار الأسطوري . والصندوق في الموروث الشعبي والأسطوري في آن واحد حافظ للأسرار. لذا استعان به الشاعر لا لشيء إلا لاستجابته إلى ما هو مضمر في ذاكرته . فالصندوق هنا ذاكرة الإنسان،ليس في الغربة فحسب،بل أنه سياق شعبي توّفر عليه الإنسان . وهو من موروثات العائلة . كما وأنه دالّة استفاد منها كتّاب السرد للبحث عن وثائق تُفيد في كتابة نصوصهم . وهو واحد من الركائز التي استخلصت واحدة من خصائص ما اصطلح عليه (الميتا سرد) فالشعر استفاد من الصندوق لكشف ما كان بحاجة إلى كشفه:
{ أتذكر صندوقاً كبيراً
كنت أكنز فيه مئات الصُحف
وقصاصات الأوراق
وأشياء أخرى }
وفي هذا نتلمس أهمية هذا الصندوق . ليس لأنه حافظ الأسرار فحسب، بل لأنه يُشكّل كنزاً بدلالة مفردة ( أكنز) فهو لم يقل ( أحفظ فيه ) بل ( أكنز فيه ) وهذ وصف للصحف ونوادرها التي لم يذكرها بل أوحى بها. وهي من بناة الكنوز أي النوادر. وهنا تكمن أهميتها بالنسبة للشاعر،لأنها حاملة لذكرياته التي يعتز بها . فهي مرتبطة بالزمان والمكان المغيّبين عنه . والأكثر بلاغة في توصيف الصندوق في :
{ أتدلى فيه كما أتدلى في بئر
بحثاً عن صحيفة قديمة
أو قصاصة ورق
أو تلبية لرغبة طفل }
وكل هذه المبررات والأسباب الثلاثة الداعية للتدلي،أي البحث،هي مجسّة البحث عن الأسطورة وسحرها،لأنها وحسب التعبير المجازي خالقة لمثل هذه المعاني والأشكال في التعبير . ولما كان الصندوق بصورته الدلالية الأسطورية،فأنه بطبيعة الحال تتحوّل إلى أسطورة سابته،لكن وبمصطلح ( مرسيا إلياد) لها بالعوّد الأبدي،وإن توالت ا الأزمنة بعُقَدِه وطولها وغبارها الكثيف:
{ لقد ابتعد الصندوق
ابتعدت غرفتي
وابتعد الوطن }
وهذ ما كنا نعنيه بالكنز الذي ( اكتنزته) الصُحف والأوراق . وجرّاء هذا يقول:
{ وأنا الآن اتدلى نحو وطني
كم أتدلى نحو بئر أليف وموّحش !}
ولعل في هذ التعبير الشعري وظّف التدلي وموّضعه ( البئر) مرتين . الأولى في الوطن بسبب الضاغط وأخرى خارجه في المنفى ، بالرغم من ألفة البئر ووحشته الطبيعية ، فهو منفى ليس إلا . هذه القصيدة احتشدت فيها عناصر الأسطورة،سواء القارّة منها أو ما خلّقها ذهن الشاعر وفق رؤى شعرية مرهفة .
في قصيدة (بالإزميل) يفتح أفقاً تشكيلياً للشعر . فيتركه يكتب بالرسم . فكل التوصيفات تنتمي إلى الفن التشكيلي . وبإضافاته يؤثث منزل القصيدة مستهلاً بخطاب الأم التي غُيّب عنها في المنافي :
{ أتذكرك يا أمي
وأتأمل القصيدة }
وفي هذا توّقف على القرين الشعري ، أو مبرر قوله . والأم دالّة للشاعر في قصائده لحظة اشتداد الموّقف . لكن ما يُميّز قصيدته ؛ أنها غير منفعلة ، بل تستقبل الصوّر بتلقائية وعفوية شعرية ، وبما يوازي الحنين الطاغي . فهو يرسم لها القصيدة رسماً :
{ فأرسم سجادة للصلاة
وقارورة الدواء}
وهذا رسم هادئ لعذاب الأم وقلق الغياب . ذلك لأن صورتها ترتسم أمامه كما تركها تعاني من المرض الذي يُقلقه :
{ أتذكرك
ناحلة مهمومة يا أختي
وأتأمل القصيدة
فأضيف صفصافة
وجدولاً
وطحالب
أتذكر نافذتي هناك
فأفتح نافذة في القصيدة
وامتداداً طفيفاً
وبيتاً للجيران
وزجاجاً ولوّناً
وصبية يلعبون }
فهو يُقلّب الواقع والماضي ليتأكد من اكتمال الصورة واستحضارها في القصيدة . وهو نوّع من خلق التماثل بين فضاء الماضي وصورته متمثلاً بصورة المكان وفضاء القصيدة المنشأة على التذكر والتصوّر. وتتوالى مفردات الإنشاء أو المبنى التشكيلي للقصيدة حتى يقفلها بإشارات أكثر دلالة :
{ فأضيف أفقاً دائماً
يؤطره الدخان
وجرّة مكسورة ! }
وهنا يتجسد أفق الحرب أولاً بدلالة ( الدخان) وذهاب كل شيء بدلالة انكسار (الجرّة) والجرّة هنا تتماثل دلالياً مع ( البئر والصندوق في قصيدة سابقة) فهي خزانة أمهاتنا وجدّاتنا . اكتسب أسطورتها من شعبيتها وتداوله في مرويات كتاب الليالي بكل سحره وتهويماته الشعبية والأسطورية ، فالجرّة تُكسر في شهر ( صُفر) الهجري لإنهاء الضرر الملحق بالإنسان . وهو نوع من التصوّر الشعبي العابر إلى الأسطوري في المفهوم .
في قصيدة ( المدينة) حوّل الشاعر نمط الروتين إلى فكرة تتلبس صورة ، الصورة معنية بروح التفاؤل . فحين يضع صورة محكومة بالواحدية ، أي التفرد ، فلا يعني هذا أن شبح التكرار يقضي على صورة هي الأكبر ( شارع ، دكان ، مقهى أصدقاء ) كل هذا مشمول بالتكرار . غير أن الأصدقاء هم الشفيع القادر على كسر الرتابة :
{ ولكن !
عدد كبير من الأصدقاء !}
التكرار هنا مفيد ، فهو أول المؤثرات . كما وأن التأكيد على كسر النمط ، حالة تؤشر إيها القصيدة مباشرة . لكن ما نؤكده هنا هو البحث عن المعنى في الوجود . فالقصيدة وإن بدت ضمن سياقها بسيطة ، وتُعطي صورة مباشرة ، غير أنها تؤشر معنى آخر يخص المنفى . ففيه تستقر الذات على علاقات تعويضية . وهنا هو القصد في ( ولكن) هذه المفردة الاعتراضية لأجل تصحيح ما يوحي به النسق الروتيني في الحياة اليومية . كذلك فعل مؤثر قصيدة ( مطر) القصيرة . وذلك من خلال الربط بين كل توّجسات الأطفال غب سقوط المطر، حتى انتظار الشمس . فهو تلخيص حالات وصوّر أبعد من لوّذ الأطفال عن المطر. فالشاعرــ كما نرى ــ في قصائده يتسلل إلى الكبير من خلال الصغير، ومن الخاص إلى العام .
وبالتعبير المجازي كشف عن صورة فيها ثراء إنساني . فالشعر فيها وسيلة لكشف الجميل في الحياة . وما الأطفال سوى ذريعة تعبير أساسية كاشفة عن وجود مستقر وآخر مرتبك . فالشاعر ــ كما تعوّد ــ لا يُهوّل المشهد ، بقدر ما يترك انسيابيته تعبّر عن المعنى الكامن في الذات . فالسردية الشعرية هنا كشفت عن صورة تسلُلْ الأطفال عبر السياج ، أي التطلع . بمعنى كشف ما لا يُراد له أن ينكشف . من هنا تبني القصيدة محوّرها :
{ اعتاد أطفال الجيران
أن يمتطوا السياج بيننا كالحصان )
وفي هذا مجاز في تشبيه امتطاء السياج ، متماثلاً مع امتطاء الحصان . بمعنى أعطى مقدماً قيمة ، حتى لو كانت براءة الأطفال ، تقيّم نظرتهم لما هو خلف السياج. وبهذا لا يكون الاعتراض على الحالة استنكاراً أو استهجاناً . وما عبارة ( أمرتهم أن يكفّوا ) سوى عبارة محببة وليست قسرية . أي فيها مرونة في القصد . كذلك تعبير( فلم يستجيبوا ) إلا نوّع من كشف التوصل بالتكرار والفحص إلى معرفة القيمة الجمالية للأطفال في ( فاكتشفت عيونهم الجميلة الملوّنة) غير أن امتناعهم عن التسلق ، أكد ما أشرنا إليه في البداية . فتحوّل السياج إلى فاصل بمعنى حاجز للجمال والبراءة . بل بالتعبير الشعري :
{ صار السياج بيننا فاصلاً
واختفى ذلك النبات البشري المتسلق
وأزهاره الجميلة الملوّنة !}
وهكذا بتلقائية عبّر الشاعر عن قيمة كبرى لما وصفه بالنبات البشري .
في قصيدة ( شارع في البصرة ) يحاول ان يستدرج ذاكرته . فمن العنوان يعمل على إخفاء المعلن ، فهو شارع ليس إلا ، وبحدود العنونة . لكنه بهذا إنما يواري ولو مؤقتاً سحر ها الشارع ، فهو شأنه شأن شوارع المدينة ، ذات النكهة البصرية الجنوبية ، التي تختلط فيها الأنساق والتوصيفات وكوّنها علامات المدينة . فالشارع احتوى ويحتوي فعاليات البصريين وزوار المدينة في تجوالهم اليومي .فله نكهته وطقوسيته ، بسبب احتوائه على كل ما يُلبي الرغبات الذاتية والجمعية . لذا فلا ضير أن يخفي الشاعر أسمه معمماً إياه بما يُلي ذكر الشوارع ، مدّخراً سحره ضمن سياق القصيدة . لحظة يُسفر عن اسمه ، تتداعى الذاكرة الفردية بكل ما اختزنه الشارع من ذكريات . غير انه يتواصل مع ذكر خصائصه وموجوداته ،تأكيداً على قربه من الذات الإنسانية البصرية أو سواها :
{ وأذكر من شارع (الوطني)
( سينما الوطني) }
ولعله هنا يربط التذكر بتذكر آخر ، فـ(و) العطف هذه تستدعي صورة الاستذكار. فذكر الشارع جاء بعد ذكر غيره . وهو غير معلن ، لكنه دال على مشغولية إنسان الشاعر وتداعياته . الإنسان المغترب عن المكان ، فهو ضمن سردية استذكاريه متواصلة . وحين يؤكد على اسم السينما ، فكأنه يؤكد على وطنية الشارع ومشاعيته من خلال ما كان يحفل به من لقاءات وجوّلات. هذا الفعل الشعري ، يعمل على تأكيد المُؤكد في تاريخ الذاكرة . ويكون تسلسل شواهد المكان ( الشارع) متواتراً ، حيث تكون نهاية القصيدة تسجيلاً لما تعنيه هذه المسميّات . ولعل عبارة ( نهايات شارعنا الوطني !) ذات دلالة تعبير جديدة ، لأنه لم يقل( شارع الوطني) بل ( شارعنا) وهو انتساب شرعي ؛ ذاتي وموضوعي . وشعر ( مهدي) حافل بمثل هذه الضربات الذكية ، التي لا تكلف الشاعر بلاغة زائدة ، بقدر ما يمنح شعره بلاغة شفافة .
في ( الشيخوخة) لا يفلت الشاعر من هيمنة الاستعادة ذات الوقع التراجيدي ، فهو يتغنى بالمفقود والمُغيّب من الأمكنة وبروح خلقت نوعاً من التأسي المفجع ، الذي لا يكشف عن ملامحه مباشرة كما اعتاد :
{ ضجة السينما أول العمر
هدأتها آخر العمر
( من ذا يدل خطاي إلى مقعدي
في الظلام ) ؟!}
هذا السؤال خلقته حالة طبيعية مرهونة بحضور الشيخوخة . ولكن الذي هو غير طبيعي هو الاختفاء ، أو ضياع المعالم :
{ تباغتني ضجة
يعتريني الهدوء الذي قاد شيخوختي
للطفولة في السينما }
إذ نجده يُقر بحالته ، غير انه يحنُّ لطفولة السينما . بعدها يُعدد المفردات التي استقرت في ذاكرته استدعاء بكامل حيويتها. ثم أنه يوازي بين ما يتذكره وما يحُدثه التذكر من مرارة الفقدان :
{لم يبق لي من ضجيج الطفولة
غير (الغروب الأخير) }
ولعله عنوان فلم شاهده في الماضي .كذلك يقترض صورة من يقوده إلى صالة السينما ، وهو الفتى الذي (هو) استرجاعاً :
{ ــ انتظر .. يا فتى
كي تقود خطاي إلى مقعدي في الظلام !}
فاصبح الظلام الذي كان يسود صالة السينما ، مجازاً لظلام الواقع المشتبك بالظلام الأكثر تركيزاً في القسوّة ، والأكثر فاجعة بما يُشير إليه سؤال قصيدة ( لماذا) الذي يضمر تفرّداً ، ولو بدلالة بسيطة، لكنه سؤال المغترب الرافض في ذاته الابتعاد عن الوطن :
{لماذا أشتهي احياناً
أن أحتسي كأسين معاً
وأدخن سيجارتين معاً ؟!
لماذا أريد أحياناً
أن أتذكر أمي مرتين في لحظة واحدة ؟!
لماذا أنا هنا
وحياتي هناك ؟! }
سرديات الشعر /
يستفيد شعر (مهدي) من السرد ، باعتباره قادر على خلق تواتر أنماط الحياة بكل مفارقاتها . فالسرد في هذه الحالة يُتيح للتفاصيل الشعرية ذات الخاصية الاستذكارية أن تُحق صوّر أكثر ترفد الشعرية وتعمقها . لأن شعر ( مهدي) ينتشل ما هو يومي ومألوف ، من أجل تصعيده فنياً إلى مرتبة مركز الشعر . ففي ( نهار مشمس) نجده يبدأ بالوصف والسرد ، لغرض عكس ما يراه أو يتذكره :
{ العجوز الريفية
بعباءتها الصوف
السوداء
الحائلة }
ثم يُتبه إلى وجودها في الباص ، لا لشيء سوى لتكثيف مشهدها اليومي . لأنها أساساً تحمل إرثاً من حيف الزمن :
{ وهي تتمتم بصوت غامض
مرتبك وحزين
ويهتز دهرها باهتزاز الباص }
ثم يعود إلى منفاه ، ليتأمل ما يضمره الزمن ، عبر تماثل صورة العجوز وصورة الأم البعيدة عنه :
{ كان نهاراً مشمساً في هذا المنفى
ولا ينقصني شيء!
ترى كيف تموت أمي العجوز ؟
وكيف يهتز دهرها الآن ؟! }
وهو متعلق إنساني يُلازم الشاعر في غربته . فالأم عنده تعني كل شيء ، فالوطن هو الأم ، والتاريخ كذلك . فصورتها تعبير عن نصاعة الزمان والمكان.
في قصيدة ( الجندي) يوّظف المخاطب من السرد في :
{ أيها الجندي
أسوّد كنت أم أبيّض
على لوّح الشطرنج
أم على أرض المعركة
فإن مصيرك الموّت !
أسوّد كنت أم أبيّض
فليس لك إلا أن تتقدم
لتقتل (العدو)
أو ليقتلك ( العدو)
الحكّام لا يموتون إلا قليلاً }