الجواهري يمجد السيـد المسيح وسيرته ويتمثل ببعضها
رواء الجصاني
مع قدسية وبهجة اعياد الميلاد، واستهلال العام الجديد 2025 راحت الذاكرة بانسيابية عجول دون سابق تخطيط ، تفيض بابيات شعر للجواهري (1899-1997) حملت تقديرا واستشهادات واوصاف تليق بتنوير السيد المسيح وتعاليمه، والتقديس لامه مريّم، وصليبه ذي الاكثر من مدلول وثراء.. وفي كل ذلك وهــــذا تســــــاوق وانسجام مع مواقف وفلسفة الشاعر الخالد في تبني موحيات الارض والسماء الانسانية، بصدق وانغمار روحي بلا عواطف او زيف..
... ابياتٌ عديدة من قصيـدٍ ثـرٍ، في منجز شعري ثري(**) وموحيات تبوح على مدى عقود، لما نوثق له، عما جاش به الشاعر الخالد عن السيد المسيح، ولعلّ اولها ذلكم البيت من قصيدة «لبنان في العراق» عام 1922 بمناسبة زيارة رائدة للمؤرخ والكاتب اللبناني امين الريحاني، قبل ان يتنكر ويوغل في العداء للجواهري، ومفتتحها:
أرضُ العراق سعت لها لبنانُ، فتصافح «الإنجيلُ» والقرآنُ
وتطلعت لك دجلةٌ فتضاربت، فكأنما بعبُابها الهَيَمانُ
ولأن انطلاقة تأرخة ما بين الشاعر والايمان المسيحي، الراسخة عند متبنيه واربابه جاءت دون سابق تحديد كما اسلفت، سأروح أتلقف واسترسل دون تلازم سياقي زمني، او توصيفي، ابياتاً ومقاطع من القصيد العامر ودون اسهاب في التفصيل لا سيّما وان اغلب ما سيأتي واضح في معناه ومغزاه..
في تمجيد اليسوع وامه مريّم
يتبنى ويوثق الجواهري تمجيده لدور السيد المسيح، وانطلاقته في الفكر والتنوير وذلك في بيت صدوح من قصيدة «في ذكرى ابي العلاء» عام 1947 ومطلعها:
قفْ بالمعَـَّرة وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا، واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا
واستَوحِ مَنْ طبَّب الدُّنيا بحكْمَتَهِ، ومَنْ على جُرحها مِن روُحه سَكَبا
وفي سياقها يأتي ذلك البيت الهتوف الذي ربما يصلح لوحده ان يكون رمزا تنويريا باهضاً في بلاغته وعبيره وبنائه:
لِثورةِ الفكـرِ تأريـخٌ يحدّثُنا، بأنَّ ألفَ «مسيحِ» دونَها صُلِبا..
ونتوقف لمزيد من الدلالات التي نُعنى بها في هذه الكتابة فنشير الى تمجيد الجواهري للرمز الديني والانساني، أم السيد المسيح، السيدة مريّم العذراء في قصيدة «اخي جعفـر» الشهيرة عام 1948 حين يقول مخاطبا شقيقـه الشهيد:
أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم..
وأنّ بطونَ العُتاةِ التي مِن السُحتِ تَهضِمُ ما تهضمُ..
وأنَ البغيَّ الذي يدعي من المجد ما لم تَحُــزْ»مريّـمُ»..
ستَنْهَدُّ إن فارَ هذا الدمُ، وصوَّتَ هذا الفمُ الأعجمُ
تبني المسـرّة والسلام
ولأن القناعة راسخة عند الجواهري بما اوحت به، واشاعته، مفاهيم السيد المسيح وتعاليمه الانسانية بنهج الأمان والمحبة والتاخي، يقارن الشاعر في قصيدته الموسومة «انشودة السلام» عام 1959 بين تلكم المباديء المسيحية النيّرة، مع افكار وافعال الطغاة، مرمزا الى واحد من اشهرهم، ويعني»نيرون» حارق روما عام 64 ميلادية.. وجاء مطلع القصيدة: جيشٌ من السلم معقودٌ له الظفرُ، وموكبٌ كشعاعِ الفجـر ينتشرُ ..
ومن ابياتها:
آمنتُ بالسلم لا دينٌ لمن كفروا، به، ودينٌ لاهليهِ وان كفروا..
وينعقُ «البوم» في «روما» على يده، دم «المسيح»على الزيتون ينعصرُ
تأبى الحضارة ان يجتاحها أشـرٌ، وأن يذبّح من أبنائها بطــرُ..
* عذابات المسيح والام الشاعر
وفي فضاءات اخرى، واستلهامات – وما اكثرها عنـد الجواهري- تهدر شكاوى وهضائم، ومناجاة ومناغات، من ظروف و»اشخاص» واجواء، يروح الشاعر الخالد يستذكر بعض همومه،ومعاناته، ويشببها بآلام السيد المسيح وعذاباته: مطاردا، ومحَاربا، ثم مصلوبا.. فيقول في قصيدة «لبنان يا خمري وطيبي» عام 1961 والشاعر في طريقه لاغتراب راح مديدا عن بلاده، وغاضبا ومغاضبا بعض اهلهــا:
«لبنانُ» يا خمري وطيبي، هلاّ لَممتِ حُطامَ كوبي
هلاّ رَدَدْتِ لسُهدِها عيني، وقلبي للوجيبِ..
.. ويواصل الاستذكار والتشبيه، فيقول:
وأتيتُ «لبناناً» بجانحتيّن من ريـحِ غَضوبِ..
مثلَ «المسيـح» إلى السماء وقد حُمِلتُ على صليبِ..
* عواقبٌ لأشاعة التنوير
وفي عام 1963 ينبض قلب ولسان الجواهري بجروح ودماء مواطنيه، ومآسي بلاده وهي تئنّ بعيّد مآسي انقلاب شباط الدموي الرهيب في العراق فيكتب «بانوراما» شعرية عن بعض وقائع تاريخية وامتداداتها، وراهنة بشيء من شؤونها وشجونها، وذلك في قصيدة «الى اطياف الشهداء الخالدين» مقارنا ما تعرض له – الجواهري- من ايذاءات، مع عذابات السيد المسيح اثناء نشره مباديء المسرة والسلام، واشاعتها، والتي خَلُـدَ بها برغم ما تعرض له وتعذب بسببه، فكتب الشاعر، الشاعر:
سلاما ومنذ العصور الخوالى، مـذّ اخضر حقلٌ بسمر الغلالِ..
ومذ حُكمّت سادة بالموالى، تنسمت الأرضُ ريحَ النضال..
زهت بالشريد رؤوسُ الجبال، وتاه الثرى بالدماء الغوالى
ودُقــت مساميرُ خجلى عطاشى، بكـفِ «المسيح» فطارت رشاشا..
بقايا دمٍ للعصور التوالى، تخضّب بالمجد هام الرجالِ
* تمثـلٌ ببركات المسيح
وفي حال اخرى لمشاعر المعاناة والاغتراب، يكتب الجواهري عام 1985 قصيدة «برئت من الزحوف» يتشبه في بيت منها ببعض دوره في التنوير والانهاض، مستعيرا من احدى بركات السيد المسيح، ومطلعها: وسائلة أانت تسبُّ جهرا، ألست محـجَ شبانِ وشيــبِ..
.. ويواصل ليصف تناقضات المجتمع :
أينهضُ مقدمي «ستيـن» الفا، ينـطّ بها البعيد على القريبِ ؟!..
ويعمل كي امسحّ عنه طفل، كما مَسحَ «المسيح» على الصليبِ
وأنبـذُ بالعراء بلا نصيرِ، نبيل او اديبٍ او اريـبِ
ومدلول آخـر
وفي نونية «دجلة الخير» الشهيرة المنشورة عام 1962 بمطلعها: حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البساتينِ.. يتطرق الشاعر الخالد الى احد ابرز الاعياد المسيحية، وهو «الشعانين» عندما يصف ويوصّف بغداده، ساحرته، المهضوم منها، فيهدر.
يا أُم بغدادَ، من ظَرفٍ، ومن غَنَجٍ مشى التبغـددُ حتى في الدهاقين..
يا مُستَجمَ «النُّوُاسيِّ» الذي لبِستْ به الحضارةُ ثوباً وشيَ «هارون» ..
الغاسلِ الـهمَّ في ثغـرٍ، وفي حَبَبٍ، والمُلبسِ العقلَ أزياءَ المجانينِ..
والمُسْمعِ الدهرَ، والدنيا، وساكنَها قرْعَ النواقيسِ في عيدِ «الشعانين» (***)...
* انبهار بالمسيحيات الحسان
وفي محطات فرح ذات مدلولات زاهية لما نوثق له، وفي شؤون حب الحياة والجمال هذه المرة، لم يضنّ الجواهري او يخفي اعجابه، بل وانبهاره، بجمال المسيحيات، وتميزه، شرقا وغربا، ويوثق عن ذلك علنا مع سبق الاصرار، وبوقائع وليس تخيّلات شاعر مفتون وحسب .. اما شاهدنا على ذلك فهو ماجاء من ابيات في قصيدته اللبنانية الموسومة «وادي العرائش» المعروف بـ «عروس زحلة» التي نظمها وهو يصطافها عام 1934 فكتب:
يوم من العمر في واديك معدودُ، مستوحشاتٌ به أياميّ السود ُ..
ثقي» زحيّـلة ُ» ان الحسن اجمعه، في الكونِ من حسنك المطبوع تقليدُ
هذي» المسيحيةُ» الحسناء تــمّ على، شرع «المسيح « لها بالماء تعميدُ..
كأنها وعيونُ الماء تغمرها، مستنزف الدم من عرقيّه مفصودُ
وان كان ذلك عن المسيحيات الحسان في «الشرق» ها هو الشاعر، يروح، وهو ابن سبعين عاما، مفتوناً ومتغزلاً بمسيحيات «الغـرب» والتشيكيات تحديدا، في قصيدة عنونها «المملحة» عام 1969 وبابيات تعبر بنفسها عن نفسها، وعما يجيش بروح جواهرية يانعة:
يا من رأى فلكَ النجومِ سعى بأكوابٍ و طافا..
الساحراتُ فمن يردك أن يطرنّ بك اختطافا..
والناعسات فما تُحسّ الطرف أغفى أم تغافا..
والناهداتُ يكاد ما في الصدر يقتطف اقتطافا..
هديّ «المسيـح» إلى السلام على العيون طفى وطافا..
ودمُ «الصليـب» على الخدودِ يكاد يرتشف ارتشافا..
* وايضا وايضا ..
وهكذا نصل الى ختام هذه السياحة الموجزة، ولكن المعبرة على ما ندعي، عما اردنا التوثيق له.. ومؤكدُ بان من يجول بواحات الجواهري الشعرية الشاسعة، الغنّاء، سيكتشف شواهد اخرى عديدة، مباشَرة او في السياق، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: عن «طريق المسيح» في قصيدة «خلّ النديــم» عام 1922 وكذلك في دالية الجواهري عام 1934عن «التثليث- المسيحي- والتوحيد- الاسلامي».. ومثل ذينك المثالين واحد آخر عن «ملل مقامه في لندن» عام 1947 ورابع عن «القسيس والحاخام» في ميميته الشائعة «تنويمة الجياع» المنظومة عام 1951 .. وعسى ان نفصّل في ذلك، وعنه في لواحق الايام.. * رواء الجصاني 2024.12.29
-------------------------------------------------------------------
احالات وتوثيق:
(*) الكاتب / رئيس مركز الجواهري الثقافي في بغداد وبراغ
(**) الابيات التي تم ذكرها في الكتابة اعلاه منشورة في مختلف طبعات الديوان العامر..
(***) توثق مصادر معتمدة عديدة «ان المسيحيين حول العالم، وخاصةً مسيحيي القدس وغيرها من المدن في الأراضي المقدسة يولون أهمية بالغة لأحد «الشعانين» كونه ذكرى دخول ملك السلام إلى القدس، وحدثاً سابقاً لقيامة يسوع وبداية أسبوع الآلام..»