أنا و الجواهري.. من دجلة إلى فلتافا بين بغداد و براغ وصولاً إلى دمشق
آلاء أبو الشملات
مفكرةٌ صغيرة كتب عليها براغ ، لم أكن أعرف أين تقع هذه “البراغ” ..؟؟
أحتفظت بكل الصور الملونة البهية للأبنية و إنعكاساتها على النهر ، للتماثيل و القلعة و الكنائس و الأبراج ... براغ كانت سحراً للطفلة البحرية التي كنتها ، لم أكن أعرف غير البحر الأبيض المتوسط و بساتين البرتقال و لم أعتد على الأبنية الملونة البهية ، فبيوتنا حنونة بيضاء مبنية من الحجارة المحلية ، كنت أدرك بموروثي الشعبي أني الفينيقية أبنة أوغاريت و أن أجدادي بنوا حضارة عريقة هنا ، في هذه الأرض من أول أبجدية إلى أول نوطة موسيقة و خطوا أساطيرهم و شعرهم على الرقم الطينية و سافروا بأرجوانهم و قرمزهم عبر البحار ، لكن لم يتبق من آثارهم المعمارية في المنطقة إلا القليل .. الآثار المحفوظة في المتاحف و بالطبع في ذلك الوقت ، لم أكن قد رأيت بعد عظمة القلاع القديمة و التحف المعمارية في بلادي .
بقيت صور مدينة براغ عندي لسنوات طويلة ، قبل أن تضيع كما ضاعت كل مذكراتي . براغ .. صارت أكثر و ضوحاً مع قراءاتي و أطلاعي و معرفتي لاحقاً أن نهر العراق .. محمد مهدي الجواهري و بصدفة مدبرة عاش فيها ثلاثين عاماً و لكنه دفن في دمشق .
صورة معلقة
هاجرت و كبرت و عرفت و قرأت .. مرت السنون
قبل عدة أشهر ، عادت براغ إلى مخيلتي و صارت تلح عليّ دون أن أعرف السبب ، ربما حنين إلى الطفولة التي لن تعود ، ربما لأني أحب الجواهري و أريد أن أرى مقهاه في براغ ..!!؟؟
يا الله .. أدرك السبب الآن : زرت بغداد في ربيع هذا العام و كان دجلة يشي بالجمال و البهجة و قد تراءى الجواهري لمخيلتي ، بين دجلة بغداد و فلتافا براغ و بردى دمشق .
وصلت مقهى سلافيا في براغ سمعت صوت الجواهري ... خطوات قدميه وهو يمشي إلى طاولته المنزوية يجلس امام النهر و يتأمل ... يا الله هذا النهر يشبه دجلة لا أعرف ، كيف لكنه يشبهه الآن .. أدرك لمَ أحب الجواهري براغ و نهرها و لربما لو أستطعت إستعارة نظارته من على صورته المعلقة على حائط المقهى ، لرأيت براغ تشبه بغداد بعينيه .
هنا جلس شاعرنا و كتب بريد الغربة ، هنا كان يتأمل وحيداً حيث يعرفه كل أهل المدينة و مثقفوها : هذا شاعر العراق ..!!
بماذا كنت تفكر أيها الجواهري ..؟؟
حين تمشي على ضفة هذا النهر الجميل ، بم كنت تتأمل حين تصمت لساعات أمام مياهه ..؟؟و بائعة السمك ماذا قالت لك و متحفهم الوطني ذاك ..؟؟
هل كان يذكرك ببابل و سومر ..؟؟
و هل كنت ترى براغ صبية بهذا الحسن لتغازلها .
يا لَخديكِ ناعمينِ
يَضِجّانِ بالسنا
و لجفْنَيكِ ناعسينِ
مشى فيهما الوَنى
يا شِفائي .. و يا ضنى
حبَّذا أنتِ من مُنى
حبَّذا أنتِ في الهوى
من عقابيلَ تُقتنى
بأبي أنت لا أبي
لكِ كفوٌ .. و لا أنا و يا أيها الجواهري ياشاعري ، هل أنت مثلي تشعر بالسلام عند من بالنهر ..؟ هل منحنا الله السكينة في أنهر الغرباء مثلنا ..؟ هل روحك مثل روحي لاتهدأ إلا قرب المياه ..؟ المياه القديمة القديمة العظيمة.و يا أيها الجواهري ياشاعري هل لوثة الشعر بيننا آخت محبة بغداد و دمشق في قلبينا ..؟؟ حتى أني لا أعرف أي شريان في قلبي يقود إلى المتنبي في بغداد و أيهم إلى باب توما في الشام ..؟؟
شَمَمْتُ تُرْبَكِ لا زُلْفى و لا مَلَقا .. و سِرْتُ قَصْدَكِ لا خِبّا ، و لا مَذِقا
و ما وَجَدْتُ إلى لُقْياكِ مُنْعَطَفاً .
إلاّ إليكِ و لا أَلْفَيْتُ مُفْتَرَقا
و كان قلبي إلى رُؤياكِ باصِرَتي
حتى أتَّهَمْتُ عليكِ العينَ و الحَدَقا و سِرْتُ قَصْدَكِ لا كالمُشْتَهي بَلَداً .
لكنْ كَمَنْ يَتَشَهّى وَجْهَ مَن عَشِقا قالوا (دِمَشْقُ) و (بَغْدادٌ) فقلتُ هما
فَجْرٌ على الغَدِ مِن أَمْسَيْهِما أنْبَثَقا
مَن قالَ أنْ ليسَ مِن معْنىً للفْظَتِها
بلا دِمَشْقَ و بَغدادٍ فقد صَدَقا .
يا أيها الجواهري با أبن العراق هل أحببت دمشق كل هذا الحب حتى مت و دفنت فيها ..؟؟
و هل أنا بنت الشام سأدفن في بغداد التي أحبّ ..؟؟