الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
 صريمٌ و سديمٌ

بواسطة azzaman

قصة قصيرة

 صريمٌ و سديمٌ

رشيد سكري

 

   هكذا تبدو قرطبة شاحبة مثل الصريم ...

  على طول وادي الهدير صوت عال يشق العنان ؛ ناسٌ زرافات ووحدانا ، يحملون أمتعهم ، ويشدونها بحبال على مطاياهم . راحلون في غسق مدلهم ، وفي أول فجر طلوع . دروب قرطبة ستـُستطاب للقادمين الغزاة ، سيعيثون في حاراتها ومساجدها ومناراتها فسادا ... إنهم الإفرنجة ، وما يأتي من قر الشمال . سيصفعون فجر قرطبة ، هذا الفجر الوليد ...

ـ وأنت يا ابن رشد لن تدخل مساجد الله بعد الآن .

من خلف ستار صفيق ، اشرأب بنحره حتى ظهر منه الوريد

ـ سأعيش بالقرب منك ... حتى توارى الثرى الطهور .

  كنت أسمع عنك كثيرا ، وأنا لازلت أركض في البرية مثل وعل حديث الولادة . من شرفة ضيقة في منحدر ابن زيدون ، كنت أطالع أولى قوافل المهاجرين ، وهم يغادرون قرطبة ؛ أم حنون . كان لغطهم يملأ سكون المكان ، ويتيه في شعاب مداراتها غابشة وراء سديم . عندما أبعد ابن رشد لم يكن ، وقتئذ ، لا ظاهريا ولا مالكيا ، وإنما كان عبدا صالحا لله . يأتيه فجر ؛ فيتوضأ للصلاة على إيقاع النداء ، الذي يتيه في دروب وحارات قرطبة .

  دخلت عصرا على جمع في حضرة الخليفة الطاهر، وكان بريق عيون وجلة قد حسمت في أمر الطبيب . أخذت مكاني بالقرب من الوازعي . وقلت : 

ـ بم قضى الجمع يا أبا إسحاق ؟

بصوت كتوم ، ومن شفتين مكتنزتين ، حفتهما صفرة كأوراق اللحلاح .

ـ تأخرت يا عبد الله . ما خطبك ؟

أجبته ، ويدي على صدري لأعيده إلى إيقاعه النافر وجلا ، والمنفلت تعبا.

ـ طريق شاقة يا وازعي ، من إشبيلية إلى مراكش ... لا راحلة و لا رفيق . دام سفري أسبوعا كاملا . نمت في عراء  ، بين وحوش وضوار .

قال أبو إسحاق ، كاظما غيظه :

ـ  أودع الخليفة الناس في السجون ... وجلهم من خيرة القوم و أتقيائه .

صحت بصوت ، حتى التفت إلي البهاليل كأعجاز نخلات خاوية :

ـ حنانيك  !وهذاذيك ! يا فاطر السماوات والأرض  .

ـ هل جـُن الخليفة ؟ حتى يـُسجن الإمامُ علي إلى جوار قطاع طرق و مارقين عن القانون .

 في المساء ، وعند الحجرة الملساء ، كنت أستطيب عبير الياسمين و الدراق الفواح ، صاعدا من صواعدَ و هوابطَ وادي الهدير ، حتى جاءني الوازعي ينذر بالحرق .

ـ أحقا ما تلوكه الدهماءُ يا عبد الله ؟ فسدر بكلام لم أفهمه .

ـ حنانيك يا رب  !ستوقد التنانير عندما يجن الليل ؛ لحرق الكتب ، التي خلفها قاضي قضاة قرطبة.

حركة دؤوب أمام غوطة المعبد القديم ، خرج نفر من الناس ليشاهدوا الكتب ، كهودج عروس ، تتهادى فوق المطايا والحوامل ، وهي تبكي حظها العاثر ؛ عندما تصبح رمادا تدروه ريح هجير. عقيرة البعض ارتفعت بالحوقلة ، والبعض الآخر بالمـُكاء و التصدية ، لتتحول إلى لازمة واحدة تشق عنانا نديا.

ـ الأفكار باقية في ملكوت الرحمان  والكتب فانية .

ـ الأفكار باقية في ملكوته  والكتب فانية .

صوت نحيب ، ولطم خدود ، وبكاء وفير كل ذلك عرفته في ليلة صريمها كطنافسَ سود. خنقني ما درته ، تلك الليلة ، ريح هجير من بقايا كتب الطبيب ، فملأت أزقة ودروبا وغوطات و وهادا . فاستيأس خلق كثير من مَن ساس الناس بسياسة غير عادلة ، والله يأمر بها عباده . تدبرت آيات محكمات في العلم ومعرفة المجهول ، والنفاذ إلى أقطار السماوات والأرض بسلطان الكشف والمعرفة والبيان .

  فجاءني الوازعي مهرولا خائفا سادرا في كلام غير مفهوم ، لغده السمين ووجه المستدير وبنيته المشحمة منعته من أن يستعيد روعه بيسر

ـ هدئ من روعك وفجعك يا أبا إسحاق ؟

كنت أنظر إلى فوديه الأشمطين ، وعارضين كثيفين قد شملهما الله بعفوه

ـ أليسانة !  أليسانة ! 

نطقت الدهماء حكمها الفج ...  وقعت الواقعة يا عبد الله  !

نفي الطبيب إلى أليسانة ، بكينا جميعا على فراق غير منتظر ، وألحقتنا أخبار بأن الدهماء ستمنعه من دخول مساجدها ومناراتها الروحية . إنك لتطغى على عباد مستضعفين ، فقراء ومعوزين . عدت أنا إلى بطاحي ، كما عاد الوازعي إلى بطاحه ، وقد شـُملنا بسكون لم نعرف مصدره ومقامه .

 

         

 

    


مشاهدات 201
الكاتب رشيد سكري
أضيف 2025/04/14 - 3:49 PM
آخر تحديث 2025/04/16 - 3:16 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 190 الشهر 15225 الكلي 10595872
الوقت الآن
الأربعاء 2025/4/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير