قصة قصيرة
الحي الميت
عادل كاطع العكيلي
غبارٌ وطريقٌ في لجّة اللاعودة، ذلك هو الطريق الذي انطلق فيه من بغداد إلى قضاء الحي جنوباً في محافظة واسط، كان طريقاً قفراً على مدى ثلاث ساعات طوال، الكثير من التساؤلات والذكريات تدور في ذهنه وهو يشد الرحال إلى ذلك القضاء مسقط رأس أجداده.
استقلّ عمار الباص المتوجه إلى هنالك، وكان ذلك قبل عام 2003، حيث الطريق متآكل والإسفلت محفور يُنبئ بأن تلك القرى ومدنها قد أُزيحت من ذاكرة الوطن، لما أصابها من الإهمال والنسيان، كان ينظر إلى تلك المزارع والحقول وقد هُجّرها أهلها وأملحت تربتها، وشحت بعطائها فهجرها الطير والإنسان وربما حتى الهوام.
وصل عمار هناك ظهراً في مرآب القضاء وتراءت له الساحة القريبة مجدبة والشوارع تلتحف بدخان عوادم السيارات والأتربة المتطايرة من هنا وهناك، سوق القضاء المنسي الذي أكل عليه الدهر وشرب المسمى(بالسوق العصري) أو (سوق الولاية) لا يبدو عليه أي شيء من مظاهر الحداثة لما كان يرزح فيه من البؤس الذي يلف أركانه، فكل ما هناك كان عبارة عن أطلال منازل قديمة عفا عليها الزمن، وشوارع ترابية قد خطت المياه السطحية خطوطاً فيها لرمي الفضلات من المنازل، لم يرتد بصري على أي أثر من ملامح الحياة فلم يكن هنالك حدائق ولا ملاعب ولا أسيجة ولا مباني فارهة، سوى بيوتات متراكمة بعضها على بعض يجمعها فقط إنها تقي أهلها الحر والمطر.
نزل من ذلك الباص الكبير الذي كان يسير كالسلحفاة ويعوي كالذئاب نافثاً دخانه بكل اتجاه كأنه ماضٍ في رحلة مجهولة إلى مضارب ذلك القضاء، أخذته قدماه من مرآب القضاء الى ذلك السوق ودخله من ساحته الرئيسة، كان ينوي الوصول إلى (بحيرة) صغيرة من الماء هي مهد لذكريات جميلة ودموع سكبها فيها، كانت تلك البحيرة كفيلة بأن تجذبه إلى ذلك المكان بعد عشرين سنة من الفراق، ولم يكن يتصور أن الأرض التي نبوح لها بأسرارنا في لحظات الوجع تبقى تحافظ عليها كل تلك السنين كأمٍ احتفظت بملامح ولدها المفقود، كان يصاحبه في تلك الأشهر التي قضاها في ربوعها صوت المذياع الذي لم يكن يفارقه ليستمع إلى الأخبار المتلاحقة عن تلك الحرب الضروس حرب الخليج الثانية، وكان صوت المواشي المنتشرة في تلك الربوع يلقي ضجيجاً آخر يلفّ المكان، غادر ذلك المكان منذ أن وضعت الحرب أوزارها في آذار من 1991م.
توجه إلى أقصى السوق بحثاً عن سيارة توصله وقد انحرف يساراً إلى علوة الأغنام، التي تهبّ حال الاقتراب منها رائحة الروث ثم تزداد الرائحة كلما قربت المسافة منها كأنها تدلُّ عليها، وهناك في علوة الأغنام يطالعك رعاة يعرضون الأغنام والجمال والبقر والحمير والخيول للبيع، في معارض غير منتظمة يقف فيها أو يتنقلون بين زواياها فلاّحون ورعاة وتجار وصيّادون حاسري الرؤس أو يعتمرون الكوفيات والعقال، ويلبسون (دشاديش) وعباءات وأحزمة جلدية، يساومون ويدققون ويتفحصون..وكان المكان يضج بأصوات الناس وثغاء الأغنام، وعلى الأرض تتناثر أعواد التبن والأعلاف وفضلات الحيوانات، إنه مسرح حقيقي للرعي تختلط فيه المظاهر بين الإنسان والحيوان توجه إلى أحدهم.
- أين أجد سيارة تقلني إلى قرية (الاصلاح) في جنوب القضاء.
- أظنك غريباً!!
- نعم أنا من بغداد
- إنها هناك على اليمين.
توجه إلى حيث دله، فوجد سيارة الأجرة (الفولفو) القديمة ذات الموديل القديم فانطلقت به من قرب علوة الأغنام إلى حيث تلك المساحة الغنّاء، والبركة المائية الساحرة التي جذبته اليها بعد كل تلك السنين، سارت به تلك (المركبة الفضائية )القديمة بين مجاهل الأرض الزراعية مروراً بمرقد الصحابي (سعيد بن جبير) حيث دلف جنوب قضاء الحي بمحاذاة نهر قد مخر عباب تلك الأراضي وهو نهر(الدجيلة)، وقد انتشرت القرى على جانبيه، نزل في ذلك المكان، الذي انتشرت فيه بعض البيوتات البعيدة في المضارب تتراءى للناظرين، لم يطل المكوث كثيراً في أحد البيوتات لقريبٍ له، فبادره عمه::
- أهلا عمار..أظنك جئت لزيارة بحيرتك السحرية بعد هذا الفراق الطويل!؟
- نعم ياعم، لقد كان الفراق طويلاً وأظنها ما زالت بانتظاري!
- لا تتفاءل كثيراً، فقد هرمت معشوقتك حتى غزاها الشيب وخطت التجاعيد آثاراً عليها.
- ماذا تقول ياعم!! ماالذي جرى لها؟
- اذهب وسترى بأم عينك ماذا فعلت السنين العجاف بها بعد أن انحسر الماء عنها.
- وهل من العدل أن تجف تلك المراح الخضراء لا لذنب اقترفته؟
- ولدي..بعد انتهاء حرب الخليج عمـدت الحكومة إلى حسر الماء عن المحافظات الجنوبية كي تجفف الأهوار لتذرعها بوجود المخربين بين أحراشها فكان لهذه الأراضي والبحيرات نصيب من ذلك الجفاف.
- أي عقاب جماعي ولِمَ تتحملونه أنتم؟
- هذا هو قدرنا يا ولدي.
ما كان من عمار سوى أن يهم بالمسير مسرعاً الى غايته، إذ حملته قدماه ببطء يتفحص الطريق فتعتريه مشاعر مرتبكة، خليط بين الماضي والحاضر، كان يديم النظر إلى تلك المراح التي أصبحت جرداء مترامية، فقد خلت تلك الأرض من الطير والشجر، أصبحت أرضاً مقفرة لا شيء يوحي بأن ثمّة حياة فوق أديمها، وكانت بالقرب من ذلك المكان خيمة مهجورة بالية بلون التراب، لم يجد أثراً للحياة لا في داخلها ولا في خارجها، اقترب من تلك (البحيرة) التي غفت باستحياء بعد جفافها وكان منظر الغروب يضفي عليها إحساساً ينبئك بأن انعكاس بريقها هو انعكاس للأرواح في تلك اللحظات المنسية من عمر الزمن، كان صدى صوته يقرع سمعه وهو يصرخ في تلك المراح، وكان هذا الصوت يجلو صدى غيبوبته، عندها أسدل دمعه مثقلاً بالحنين لتلك الذكريات، وأمتطى صهوة عدمه متأبطاً حزنه وقلقه يمشي كعاشق برح به الهجر يتوكأ على همسات وذكريات عابرة تبرق بين الحين والآخر، يمشي متعثراً بخطواته يغالبه أمل في أن يبحث في هذا المكان كي يجد بقايا خطاه وتنهداته الغابرة، أغمض عينيه للحظات في شبه إغفاءة، متخيلاً نفسه كوطن مصلوب على أكتاف المقابر، يرقص فزعاً على نغم سياط جلّاد محترف، حشد من السنين يناهز العشرين عاماً مرت من أمامه لا يعلم كيف عاش كل هذا الموت، كان يستمع إلى أغنية