الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
لكل ضرير تقنيته.. لماذا لا يشبه طه حسين بورخس؟

بواسطة azzaman

لكل ضرير تقنيته.. لماذا لا يشبه طه حسين بورخس؟

نوزاد حسن

 

 قبل كل شيء اعني بتقنية الضرير اسلوب خاص في اكتشاف العالم.فاذا كان العمى سورا يفصل الانسان عن عالم الاشياء,فهل يتساوى كل فاقدي البصر بقدر محدد من الشعور والافكار.ولكي يتضح جيدا ما اعنيه بتقنية الضرير اود المقارنة السريعة بين بورخس واديب ومثقف تنويري هو الدكتور طه حسين.وفي الحقيقة فان تامل ما كتبه طه حسين ومنهجه الفكري سيجعلنا نحتار ونتساءل كيف اختلف طه حسين كليا عن بورخس على الرغم من انهما ضريران,وعاشا في زمن واحد.

   كان طه حسين كاتبا ومثقفا عقلانيا صارما يضع الفروض وينقضها,وكان اول منهج اتبعه هو منهج الشك الديكارتي الذي استخدمه في كتابة «في الشعر الجاهلي»المنشور سنة 1926,والذي اثار ضجة كبيرة في مصر قدم بعدها الى المحاكمة,وصودرت نسخ الكتاب من السوق.اذن العقل والفرضية,والجدل كانت ادوات عميد الادب في طرح افكاره وارائه.وكان منهجه التاريخي ومحاولته وضع معايير ذوقية نقدية لتقويم الشعر علامتان على حياة ستبقى تخوض في هذا الفلك العقلاني.نعم كان طه حسين يريد ان يكون تنويريا وواقعيا لذلك لم نر في كتاباته تلك النزعة التخيلية التي تنظر الى كل شيء نظرة وجود معرض للزوال.على العكس فقد شك طه حسين بالشعر الجاهلي لانه اراد ان يصل الى حقيقة هذا الشعر.ومن خلال الشك وجد بعض الشعر الجاهلي الحقيقي بعد ان نفى معظمه.

العالم موجود

1بورخس لم يفعل هذا الشيء وكان على النقيض من كل العقلانيين الهائمين بحب العقل.لم يشعر بورخس انه قادر على الشك لسبب بسيط هو ان الاشياء واضحة جدا,وانها تمارس عليه ضغطا جبارا يشعره بانه زائل.لا اعرف لماذا اشعر ان طه حسين كان اقرب الى ارسطو في حين كان بورخس قريبا من كل الوجوديين والمتصوفة.لا يمكن ان يصبر بورخس على الشك في العالم كما فعل ديكارت,او كما فعل طه حسين من بعده.العالم موجود وهو يتكون من النظام والفناء,اعني يتالف من القانون الموجود في بناء هذا الكون وبين الضعف الذي سينتهي به كل شيء.

   طه حسين اذن ضرير لكنه عقلاني امن بان الحياة تتطلب قدرا كبيرا من العقل لكن بورخس الضرير ايضا ادرك ان الحياة تتطلب قدرا كبيرا من التخيل.ومن هنا سار كل من الكاتبين في طريق تخالف طريق الاخر.

   كانت حياة الشاعر الارجنتيني اكثر درامية,واكثر الما وقلقا,لانها حياة خاضت تجربة العيش باسلوب اطلقت عليه تسمية اتمنى ان تكون موفقة وهي»تقنية الضرير».وهذه التقنية ليست قدرة ذهنية او جدال فلسفي قائم على رفض واثبات الفرضيات..واذا كان ديكارت قد امتلك القدرة على الشك في كل شيء حتى في وجوده هو(1).فان بورخس افتقد هذه القدرة لانه بدأ من النقطة التي شك فيها الفيلسوف الفرنسي اي ان بورخس اكتشف وضوح العالم بكل اشيائه,وشعر بذلك التناغم والانسجام بينه وبين كل شيء من حوله.2في (الشاهد) وهو نص قصير يشبه القصة القصيرة,وفيه اعتراف صادم يدل على تبجيل هذا العالم وكل ما فيه.يصور بورخس رجلا يتمدد وسط نكهة حيوانات بعينين رماديتين,ولحية شهباء,يفتش عن موت كمن يفتش عن نوم.ومع اشارات ديكورية قليلة يكشف هذه الحقيقة:»قبل الفجر سيموت هذا الرجل وفيه ستموت شهادة العين الاخيرة لتلكم الشعائر الوثنية,ولسوف يكون العالم اقل بؤسا بموت ذلك السكسوني...ما الذي سيموت معي حين اموت..؟ما الشكل المؤسي والفاني الذي سيخسره العالم..؟هل صوت ماسيدونيو فرنانديز..؟صورة فرس اغبر على مصيره الاخرق عند سيرانو»كاراكاس»..؟او حجر كبريت في درج منضدة من خشب الماهوجني..؟(2)       

زخارف خارجية

    قلت سابقا ان الشعر الحدسي لا وجود فيه للتجريد او للحكم التي يستنتجها الشاعر ويضعها في قصائده كزخارف خارجية.في نص (الشاهد) نجد بذرة شعور منظم وعفوي اضفى على النص بساطته غير المفهومة.هذه البساطة يمكن فهمها على النحو التالي.احس بورخس ان الفناء ليس صفة خارجية للاشياء,بل هو اهم صفة موجودة فيه كانسان.ان الفناء او الموت حالة عالمية وكونية عرف بورخس كيف يعطيها شكلها الحقيقي الواقعي.واذا اردنا ان نفهم نص «الشاهد»فلا بد من ان نقر ان اصل النص وكثير من نصوصه هو هذه العفوية الشعورية المنظمة.وكل ما قيل في النص من تفاصيل تختار على اساس هذا الشعور الواضح.اذن يطبق بورخس اسلوبه المعروف في خصم نسبة كبيرة من الادعاء وتقديم تفاصيل عابرة يختتمها بموته او موت بطل من ابطاله من اجل ان يكون صادقا مع شعوره المتطابق تماما مع صورة الحياة من حوله.

3 وعلى هذا الاساس لا يوجد تطابق او تشابه بين وجهتي نظر مثقفين عانى كلاهما من حالة فقدان البصر.وكان من المفترض ان يكونا قريبين من بعضهما نفسيا على الاقل.لكن المقارنة التي أجريتها كشفت عن فارق كبير بين اسلوب عيش وتفكير كل منهما.لذا اجد من الضروري الاشارة الى ان ما قلته عن هذين الكاتبين يقودني الى طرح تساؤلات في غاية الاهمية وهي:كيف نعيش الحياة.؟وما هي القوة الخفية التي تتحكم فينا من الداخل فتغير حياة هذا عن حياة ذاك..؟ولماذا لم تشبه حياة بورخس حياة طه حسين مع انهما كانا يشتركان في علة واحدة هي فقدانهما للبصر.ان الاجابة عن كل هذه الاسئلة المحرقة للقلب يتلخص في كلمة واحدة هي ان الشعور لا يبصر بالعيون.فلا يوجد ما يؤكد ان النظر بعينين سليمتين سيؤدي في النهاية الى تقدير جيد للحياة,او فهم العالم فهما عميقا.ان النظرة عملية ميكانيكية تعتمد على نوعية الطاقة الداخلية خلفها.فاذا كان العقل هو الموجه للانسان فان النظرة ستنطلق كالسهم الى هدف محدد,وتكون فكرة الربح والخسارة غاية هذه النظرة.ومن هذا المنطلق نجد ان وجودنا في هذا العالم ليس فراغا نملأه بما نحب من اشياء وافكار.نعم اننا نختار بعض ما نريد ونشعر اننا عشنا كما نحب.كل هذا جيد لكن هذا الشعور ليس منظما بما فيه الكفاية.واذا اردت ان اعرف الشعور المنظم لم اجد افضل من قولي انه علاقة شخصية يقيمها الانسان مع هذا العالم الواسع,ويشعر في كل ثانية انه ذرة صغيرة في فضاء مهدد بالزوال والتغير والموت.ان تسميتي لهذا الشعور ووصفي له انه منظم يعني ان هناك نارا داخلية لا تنطفيء حتى لو استخدمنا كل براعة العقل في التحليل والاستنتاج.اعتقد اني ساحتاج الى شرح مبسط لتحديد ما قصدته.لنقل ان شخصا ما اصيب بحالة حزن شديدة بسبب وفاة امه او طفله.وظل اياما يحس بانه اصبح وحيدا وان فراغا طارئا صدمه.وبمجرد ان ياتي صديق ويشرح لهذا الانسان معنى الحياة وان الموت حق,وان الصبر من اصعب العبادات.وانه سيثاب على هذا القدر الذي اصابه,نرى ان الاتفاق سيعقد فورا ويقر ذلك الانسان الحزين ان الحياة فعلا كما قيل له.هذا الشعور الذي خفت وهدأ بعد هذه الجمل العقلية هو شعور خارجي مصدره غياب شخص يشغل مكانا محددا في حياتنا.ومن الطبيعي ان يشعر الانسان انه واجه قدرا صعبا في حال موت عزيز عليه لان كل شيء سيذكره به.صوره وملابسه وكلامه واشياؤه.وبعد ان يالف الانسان انسحاب ذكريات المتوفي يعود كل شيء الى وضعه الطبيعي,ويظل الميت ذكرى عابرة في حياة ذويه.هذه حالة تحدث وتقع في كل زمان ومكان.ولعل اكثرنا مر بها ويعرف ما اعنيه جيدا.لكن هناك مثل اكثر دقة من هذا الحوار الذي يكشف تدخل الاستنتاج في تقليل اثر الحزن علينا.ان المثل الاخر الذي اريد الان ان اتطرق اليه كنت قد اشر ت اليه سريعا,وهو الاستنتاج المنطقي لارسطو.وقلت سابقا ان الحدس الشعري يختلف عن قياس ارسطو اختلافا قويا.ان اثبات قضية موت سقراط التي صاغها ارسطو منطقيا تلفت نظري في انها نظرة عقلية تجاه اخطر حادثة في حياة اي منا.لنتذكر ما قاله في قياسه الشهير:

  كل انسان فان

وسقراط انسان

اذن سقراط فان

  هذا الكلام المنمق يرفضه بورخس رفضا تاما مع انه لم يشر الى ذلك صراحة,لكن ما اود الاشارة اليه هو اسلوب العقل الذي يريد ان يفصل نفسه عن الحياة,ويحول الموت الى استنتاج عقلي يقلل من الوقع الدرامي لهذه القضية.ان السؤال الجوهري الذي لا بد ان يطرح هو لماذا لم يثبت ارسطو موته,ويضع اسمه مكان اسم سقراط..؟.في حدود العقل لا يظهر اي فرق بين وضع احد الاسمين مكان الاخر.

 

وهذا التفكير المنطقي غير دقيق لان الفرق كبير بين القياسين.فاذا قلنا:

كل انسان فان

وارسطو انسان

اذن ارسطو فان

  انا اسال لماذا لم يحاول ارسطو ان يثبت موته هو لا موت سقراط..؟هناك فرق كبير بين ان يكون الموت حدثا خارجيا نراه يقع يوميا وبين ان نحس انه موجود في دمنا.وحين تحدثت عن بناء الكون الرائع بهذا الشكل الذي نراه حيث يطل الموت في الف شكل وشكل اردت في واقع الحال ان اصل الى قناعة خاصة تقول ان الانسان كائن يعرف في كثير من الاحيان كيف يحرف معنى الرسالة الالهية التي يحملها الكون اليه.الانسان يقرا رسالة الكون ويفسرها على هواه.فبلمسة منطقية باردة يستطيع ان يغير حقيقة الحياة ويرسم صورة اخرى لها تختلف عن الصورة الحقيقية التي خرجت من بين اصابع الله القدير.

4 لقد كتب علي الوردي في اكثر من كتاب نقدا لمنطق ارسطو واصفا اياه بالمنطق القديم.واشار الى ان هذا المنطق»كان في بداية امره خطوة تقدمية كبرى في تاريخ الفكر البشري.اذ كان اول محاولة لتنظيم الفكر ووضع قواعد له.والواقع ان ارسطوطاليس الذي يعزى اليه فضل وضع المنطق كان من اصحاب العقول الجبارة التي يندر ظهورها في التاريخ.(3)

  ثم يشير الوردي الى قدر اي نظام فكري حيث يبدا نشيطا ولكنه ينحدر فيما بعد الى الجمود والفساد مبينا ان المفكرين في القرون الوسطى نظروا الى منطق ارسطو نظرة اعجاب او تقديس.

  وقد شرح الدكتور علي الوردي الصفتين اللتين اتسم بهما منطق ارسطو وهما:انه منطق صوري واستنباطي.ويعني بالصوري انه»يهتم بصورة الشيء ويهمل مادته,واوضح تطبيق لهذا المنطق جاء في الهندسة حيث يهتم المهندسون بالشكل الذي تظهر فيه الاشياء كالهرم,والمخروط,والاسطوانة,ولا يبالون بالمادة التي تتكون منها هذه الاشكال.(4)

   ونتيجة لتاثير المنطق الصوري فقد بدأ المفكرون «يستصغرون الوقائع الجزئية المحسوسة ويعدونها من الامور التي لا تؤدي الى علم يقينيصحيح.فالعلم الصحيح هو في رايهم هو الذي ينتج عن النظر في الامور الكلية العامة,اذ هي امور ثابتة لا تتغير.وهي اذن حقيقية بعكس الوقائع المحسوسة المتغيرة.(5)

  اما ما يتعلق بالجانب الاستنباطي فقد عنى به الدكتور الوردي «الاعتماد على كليات عقلية عامة,ثم يستنبط منها النتائج الجزئية الخاصة,وهو بذلك يختلف عن منهج العلوم الحديثة».(6)

                              5

   اذن هذا ببساطة ما يعرف بالمنهج الاستنباطي الذي يبدأ من مقدمة كبرى ثم مقدمة ثانية صغرى بعدها نستخرج النتيجة من المقدمتين.ولا بد ان نلاحظ ان المقدمات او المباديء التي يمكن استخدامها في هذا المنهج الاستنباطي مختلفة ومتنوعة وتتبع اهواء الناس في كل زمان ومكان.وقد ذكر الوردي نماذج من هذه المقدمات عند المسلمين الاوائل وكيف كانوا يتصارعون في ان يثبت كل فريق افكاره من خلال منهج ارسطو الاستنباطي.ومن طريف ما ذكره الوردي هو ان جده كان احد الذين استخدموا هذا المنطق حين نظر الى مطرقة بالقرب منه وقال «هذه مصنوعة من الخشب والحديد فهل من الممكن ان تطير»ويعلق الوردي على ان جده جعل من المطرقة مقدمة لقياسه المنطقي ثم راى الناس الطائرات تطير في سماء بغداد بعد اعوام وعندها نظر الجد حائرا»(7)

  في الحقيقة قصدت من اقتباساتي المتكررة من كتاب علي الوردي ان ابين الى اي درجة كان عالم اجتماعنا الكبير يخشى من سيطرة هذا النوع من المنطق لانه منطق غير واقعي,ولا فائدة ترجى منه.وقد قامت الفلسفة الحديثة بتجاوز طريقة التفكير الارسطية مع اننا ما نزال نفكر باسلوب المنطق القديم لاثبات اننا على حق.ومن المعروف ان العقل يجذب اليه او ينجذب الى الحقائق التي يؤمن بها,ويطرد في المقابل الافكار التي لا توجد فيه ولا يؤمن بها.فعند هذا سيكون اثبات اية حقيقة بالمنهج الاستنباطي شيئا مبهجا للعقل ومصدرا من مصادر سعادته.وقد تحدث الوردي مثلا عن قضية استشهاد الحسين,وكيف استخدمتها هذه الفرقة ضد الفرقة الاخرى من خلال استخدام منطق ارسطو,فاثبت كل طرف اعتمادا على حديث نبوي ما يوافق وجهة نظره نافيا فكرة الطرف الاخر.

****************************

1-ديكارت- التاملات في الفلسفة الاولى-ترجمة:امين عثمان-مكتبة الانجلة المصرية-الطبعة الرابعة 1969ص95

2- مراة الحبر ص38

3- منطق ابن خلدون,علي الوردي,الطبعة الثانية 1994,دار كوفان,لندن,ص27

4- مصدر سابق,ص28.

5- مصدر سابق,ص28.

6- مصدر سابق ص31

7-مصدر سابق ص39


مشاهدات 99
الكاتب نوزاد حسن
أضيف 2024/12/21 - 1:08 AM
آخر تحديث 2024/12/21 - 6:34 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 354 الشهر 9068 الكلي 10065163
الوقت الآن
السبت 2024/12/21 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير