الشاعر والبلاد (34)
حسن النواب
مازال صديق الغجري يجلسُ على المصطبة المتربة؛ يدخِّنُ بنهمٍ وينفخ الرماد عن ذاكرتهِ الغارقة بالأسى؛ لكنَّ ابتسامةً مباغتةً طفتْ على وجههِ الهزيل بسحنتهِ الشاحبة وهزَّ رأسهُ أسفاً؛ لقد تذكَّر الشعراء العرب الذين كانوا ينشدون قصائد المديح للطاغية في مهرجان المربد؛ إذْ كانوا يعمدونَ على نطق اسم الطاغية في قصائدهم بين شطرٍ وآخر لاستجداء التصفيق من الجمهور؛ فهم يعرفون أنَّ قصائدهم فاترة وبائخة ولا تثير انتباه الحاضرين؛ ابتسم للمرة الثانية حين لاح أمام ناظريه مشهد ذلك الشاعر الموريتاني الذي كان يعاني من النطق؛ ومع ذلك وقف على المنَّصة لأكثر من ربع ساعة وكان يلهج بكنية الطاغية مع كل شطر من قصيدته؛ الأمر الذي أرغم الجمهور على مواصلة التصفيق كلما نطق اسم الطاغية؛ والويل كل الويل للذي يحجم عن التصفيق فعيون المخبرين كانت تملأ القاعة؛ تورَّمت أكف الحاضرين من التصفيق في ذلك اليوم وبينهم كان وزير الثقافة والاعلام الذي قال لحاشيته هكذا شعراء يعشقون القائد احرصوا على حضورهم إلى المربد في كل عام. أجل معظم الشعراء العرب الذين توجَّه لهم الدعوات لحضور مهرجان المربد كانت قصائدهم تتضمَّّن اسم الطاغية حتى يضمنون حضورهم باستمرار إلى مهرجان المربد؛ لكن والحق يقال كان هناك قلًّة من الشعراء العرب الذين لم ينخرطوا في هذا الابتذال؛ وكانوا يقرؤون قصائد شعرية خالصة عن الإنسان المعدم والحياة والحرية؛ منهم الشاعر التونسي المنصف المزغني الذي كان يقرأ قصائد مختصرة تهكمية وهجائية ساخطة؛ ومنها هذه القصيدة القصيرة جدا التي فجَّرها في مهرجان المربد منتصف الثمانينيات حين قال:
خروفٌ دخل البرلمان قال: ماع… فجاء الصدى إجماع.
ضجَّتْ القاعة بالتصفيق؛ فيما كان انزعاج السلطة الثقافية واضحاً من خطاب القصيدة الساخط على الأنظمة الدكتاتورية. في الواقع لم يجبر النظام الدموي الشعراء العرب على تضمين اسم الطاغية بقصائدهم؛ لكنَّ الشعراء أصناف وطبقات في فرن وضمير الشعر والقصيدة كما نعلم. ما فتئتْ الذكريات تهطلُ على خاطر صديق الغجري؛ وقد تبدَّلتْ قسمات وجهه إلى التعاسة هذه المرَّة؛ حين لا حتْ أمام ناظريه صورة جان دمو وهو يستقبل أخته نورما في ساحة الأندلس بعد فراق لأكثر من ثلاثين عاماً، لقد جاءت اخته نورما تستقصي أخباره وتسأل عنهُ في بغداد؛ ذهبت إلى جريدة الجمهورية وهناك وجدت احد الشعرا ء الذي نصحها بالبحث عن أخيها في نادي اتحاد الأدباء، فقد دأب جان أن يكون هناك في كل يوم. كان الوقت عصراً حين خرج جان دمو بصحبة صديق الغجري من نادي الأدباء؛ حين أخبره النادل عن حضور أخته نورما لرؤيته؛ كانت تقف على رصيف قرب فرن للصمون في ساحة الأندلس؛ ترتدي تنورة سوداء مع قميص بلون أزرق باهت لقدمهِ وبكمَّين طويلين؛ بينما كان شعرها بلون الحنَّاء ومهملاً يكاد يغطي بصعوبة أذنيها؛ نحيفة القوام وأطول من جان قليلاً، بيضاء البشرة، ولها استدارة وجه وملامح تشبهُ شقيقها تماماً، وتمتلك عينين زرقاوين مجهدتين ولم يكن عمرها قد تجاوز منتصف الأربعين. حين اقترب منها جان دمو؛ شعرَ صديق الغجري بلوعتها من ارتعاش جسدها وهي ترى أخاها بعد فراق طويل؛ توقَّع صديق الغجري أنَّ عناقاً حامياً سيقع بينهما؛ لكنها لم تتحرك من مكانها؛ ولم يصافحها جان؛ إنمّا اقترب منها حتى صارت المسافة بينهما شهقة واحدة؛ ندَّتْ من شفتيها كلمات مرتبكة وقليلة بلغة لم يفهمها صديق الغجري؛ ربما كانت لهجة مشتقة من الآرامية، أجابها جان بذات اللغة وبكلمات مدغمة هي الأخرى؛ ثم قال لها بلغة عربية:
- بعد يومين سأسافر إلى الأردن.
لبثتْ صامتة والدمع يلمعُ في عينيها؛ لكنَّ أمارات وجهها أشرقتْ بالفرح المباغت؛ لتعقد كفيها أمام صدرها عند سماعها لهذا الخبر؛ ثم أكمل جان كلامه بهدوء:
- عودي إلى كركوك وانقلي تحياتي للذي مازال على قيد الحياة من العائلة.
هنا سألتهُ أخته نورما بحرصٍ وبلغةٍ عربيةٍ مفهومة:
- هل تحتاج إلى نقود؟
ألقى نظرة خاطفة على صديق الغجري وابتسامة واثقة تلوح على وجهه، قال:
- البركة بأصدقائي.
ألقتْ بجسدها النحيف على صدر شقيقها فجأةً؛ احتضنتهُ وقد تصاعد نحيبها؛ فيما وضع جان دمو يده على رأسها وراح يمسَِد شعرها كما لو أنهُ يمرر يده على فروة قطة أليفة، بينما ساحت دموع أخته نورما على قميصه الرث، استمر عناقها لبرهةٍ قبل أنْ تدعه طليقاً من بين ذراعيها؛ مسحت دموعها التي مازالت تنهمر بأصابعها الشمعية وغادرت المكان قانطة؛ هنا هتفَ صديق الغجري:
- ربما جاءتْ تطلب منك شيئاً؛ وربما هي بلا نقود.
نظر جان إلى وجه صديق الغجري غاضباً ثم قال:
- دعك من هذه الافتراضات السخيفة؛ هيا نعود إلى مائدتنا.
أشعل جان دمو سيجارته ليعود إلى نادي الأدباء فيما لحق صديق الغجري بخطواته مثل طفل حائر؛ فيما كانت دموع نورما تشتعل في مهجته بأسى وتقصف خاطره بعلامات الاستفهام.