الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر والبلاد (38)

بواسطة azzaman

الشاعر والبلاد (38)

حسن النواب

 

ذات‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬سنوات‭ ‬الحصار،‭ ‬كان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يسهر‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬مع‭ ‬شقيق‭ ‬خطيبته؛‭ ‬وقد‭ ‬أتمَّ‭ ‬عقد‭ ‬القران‭ ‬عليها‭ ‬حكومياً‭ ‬وشرعياً؛‭ ‬وبانتظار‭ ‬موعد‭ ‬زفافه‭ ‬منها‭ ‬بعد‭ ‬إكمال‭ ‬مستلزمات‭ ‬العرس‭. ‬لقد‭ ‬دعا‭ ‬شقيق‭ ‬خطيبته‭ ‬حيدر‭ ‬من‭ ‬البصرة‭ ‬ليحضر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬بهدف‭ ‬التباهي‭ ‬أمام‭ ‬أنظاره‭ ‬بأصدقائه‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين،‭ ‬كان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يجلس‭ ‬معهُ‭ ‬حول‭ ‬طاولة‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬حديقة‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء،‭ ‬ويشير‭ ‬بيده‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر‭ ‬على‭ ‬موائد‭ ‬الأدباء‭ ‬الآخرين،‭ ‬معرِّفاً‭ ‬شقيق‭ ‬خطيبته‭ ‬بهم‭.. ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬حسب‭ ‬الشيخ‭ ‬جعفر؛‭ ‬وهذا‭ ‬القاص‭ ‬عبد‭ ‬الستار‭ ‬ناصر؛‭ ‬وهذا‭ ‬الفنان‭ ‬مقداد‭ ‬عبد‭ ‬الرضا؛‭ ‬وهذا‭ ‬الممثل‭ ‬جواد‭ ‬الشكرجي؛‭ ‬وهذا‭ ‬فلان‭ ‬وهذا‭ ‬علَّان؛‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬شقيق‭ ‬خطيبته‭ ‬حيدر‭ ‬قد‭ ‬شاهد‭ ‬هذه‭ ‬الكوكبة‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين‭ ‬بأمِّ‭ ‬عينيه‭ ‬من‭ ‬قبل؛‭ ‬برغم‭ ‬يقين‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬أنَّ‭ ‬شقيق‭ ‬خطيبته‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مكترثاً‭ ‬للأدباء؛‭ ‬بقدر‭ ‬سعادته‭ ‬لمشاهدة‭ ‬ممثلين‭ ‬ذاعت‭ ‬شهرتهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬فهو‭ ‬شاب‭ ‬كادح‭ ‬بعيد‭ ‬كل‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬والأدباء،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بدَّ‭ ‬لصديق‭ ‬الغجري‭ ‬أنْ‭ ‬يدعوهُ‭ ‬حتى‭ ‬يعرف‭ ‬منزلة‭ ‬زوج‭ ‬أخته‭ ‬المستقبلي‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الأسماء‭ ‬اللامعة‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين،‭ ‬ولطرد‭ ‬فكرة‭ ‬خبيثة‭ ‬ولئيمة‭ ‬وصلت‭ ‬من‭ ‬حاقدين‭ ‬ومغرضين‭ ‬إلى‭ ‬عائلة‭ ‬خطيبتهِ،‭ ‬بأنَّ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬مجرد‭ ‬صعلوك‭ ‬مشرَّد‭ ‬ينام‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬الشوارع‭ ‬والحدائق‭ ‬المهجورة‭ ‬في‭ ‬بغداد؛‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬عائلة‭ ‬خطيبته‭ ‬ترتاب‭ ‬من‭ ‬مستقبل‭ ‬ابنتها‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬المعدم؛‭ ‬وفيما‭ ‬كان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يشرب‭ ‬كأس‭ ‬الجِعة‭ ‬ببطء،‭ ‬حتى‭ ‬أقبل‭ ‬صديقه‭ ‬الغجري‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬إلى‭ ‬مائدتهما،‭ ‬قال‭ ‬بعفويتهِ‭ ‬المعهودة‭:‬

‭-  ‬محتاج‭ ‬ربع‭ ‬عرق‭.‬

‭- ‬تتدلَّل‭.‬

‭- ‬مَنْ‭ ‬الضيف‭ ‬الذي‭ ‬يجلس‭ ‬معك؟

‭- ‬شقيق‭ ‬خطيبتي‭.. ‬حيدر‭.‬

كان‭ ‬الغجري‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬يعرف‭ ‬بحكاية‭ ‬عقد‭ ‬قران‭ ‬صديقه‭ ‬على‭ ‬فتاة‭ ‬بصرية،‭ ‬إذْ‭ ‬استعار‭ ‬قميصه‭ ‬السمائي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يلبسهُ‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬بمظهر‭ ‬مناسب‭ ‬أمام‭ ‬عائلتها‭ ‬عندما‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬البصرة‭ ‬لعقد‭ ‬قرانه‭ ‬عليها‭. ‬هنا‭ ‬انبرى‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬وقدَّم‭ ‬صديقه‭ ‬إلى‭ ‬شقيق‭ ‬خطيبته‭ ‬باعتزاز‭:‬

‭- ‬صديقي‭ ‬الأعز‭ ‬الشاعر‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭.‬

‭- ‬تشرَّفنا‭ ‬أستاذ‭.‬

ما‭ ‬أنْ‭ ‬عرف‭ ‬الغجري‭ ‬أنَّ‭ ‬الذي‭ ‬يجلس‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬إنَّما‭ ‬هو‭ ‬شقيق‭ ‬خطيبته‭ ‬حتى‭ ‬فتح‭ ‬فمه‭ ‬بكلامٍ‭ ‬مثير‭ ‬للسخرية‭:‬

‭- ‬عيني‭ ‬حيدر‭..‬

‭- ‬نعم‭ ‬أستاذ‭.‬

‭- ‬أنتَ‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬غير‭ ‬هذا‭ ‬المشرِّد‭ ‬ليقترن‭ ‬بشقيقتك؟

فغر‭ ‬حيدر‭ ‬فمه‭ ‬مذهولاً؛‭ ‬فيما‭ ‬استمر‭ ‬الغجري‭ ‬بتهكمهِ‭ ‬الجميل‭:‬

‭ – ‬هذا‭ ‬جسمهُ‭ ‬مستوطنة‭ ‬للقمل،‭ ‬مع‭ ‬إنَّ‭ ‬نصف‭ ‬القمل‭ ‬أخذهُ‭ ‬مني‭.‬

ضحكَ‭ ‬حيدر‭ ‬مجاملةً،‭ ‬لينظر‭ ‬إلى‭ ‬وجه‭ ‬خطيب‭ ‬شقيقته‭ ‬باستغراب؛‭ ‬فارتبك‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬وقد‭ ‬توهَّجت‭ ‬نياط‭ ‬قلبه‭ ‬بغضب‭ ‬عارم؛‭ ‬فقد‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الكلام‭ ‬لبرهةٍ،‭ ‬حتى‭ ‬تمكَّن‭ ‬أن‭ ‬يفتح‭ ‬فمه‭ ‬ويقول‭ ‬أخيراً‭: ‬

‭-  ‬صديقي‭ ‬نصيف‭ ‬يحب‭ ‬المزاح‭ ‬عندما‭ ‬يسكر‭.‬

‭- ‬لا‭ ‬مزاح‭ ‬ولا‭ ‬هم‭ ‬يحزنون،‭ ‬اتحدَّاك‭ ‬تنزع‭ ‬قميصك‭ ‬أمام‭ ‬حيدر‭.‬

‭- ‬لماذا؟

‭- ‬حتى‭ ‬يرى‭ ‬القمل‭ ‬الذي‭ ‬يعشش‭ ‬فيه‭.‬

‭- ‬نصيف‭ ‬اشرب‭ ‬ربع‭ ‬عرق‭ ‬على‭ ‬حسابي؛‭ ‬واتركنا‭.‬

‭- ‬أريد‭ ‬نص‭ ‬عرق‭.‬

لقد‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬ابتزاز‭ ‬صديقه؛‭ ‬ليقول‭ ‬بجزعٍ‭ ‬وعلى‭ ‬مضض‭:‬

‭- ‬لك‭ ‬ما‭ ‬تريد‭.‬

لقد‭ ‬جاء‭ ‬بشقيق‭ ‬خطيبته‭ ‬حتى‭ ‬يؤكد‭ ‬حظوتهُ‭ ‬بين‭ ‬الأدباء؛‭ ‬وإذا‭ ‬بالملعون‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬يضعهُ‭ ‬بين‭ ‬فكيِّه‭ ‬الساخرين‭ ‬ويزيد‭ ‬صورته‭ ‬قتامةً‭ ‬أمام‭ ‬عائلة‭ ‬خطيبته؛‭ ‬وقبل‭ ‬أنْ‭ ‬ينصرف‭ ‬الغجري‭ ‬من‭ ‬المائدة‭ ‬قال‭ ‬لحيدر‭ ‬بوقاحةٍ‭:‬

‭- ‬نصيحة‭ ‬لوجه‭ ‬الله؛‭ ‬طلِّقْ‭ ‬أختك‭ ‬منهُ‭.‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬عند‭ ‬الظهيرة‭ ‬وجد‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬في‭ ‬حانة‭ ‬روافد‭ ‬دجلة‭ ‬يجلس‭ ‬مع‭ ‬كزار‭ ‬وجان‭ ‬دمُّو؛‭ ‬بعد‭ ‬انضمامه‭ ‬إلى‭ ‬مائدتهم؛‭ ‬قال‭ ‬بأسى‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬بحنقٍ‭ ‬إلى‭ ‬عينيّ‭ ‬الغجري‭ ‬اللامعتين‭ ‬كأنَّهما‭ ‬بركتي‭ ‬عسل‭: ‬

‭- ‬هل‭ ‬تقبلان‭ ‬ما‭ ‬فعلهُ‭ ‬ليلة‭ ‬أمس؟

أجاب‭ ‬جان‭ ‬بهدوء‭ ‬بينما‭ ‬راح‭ ‬كزار‭ ‬يضحك‭:‬

‭- ‬الغجري‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬لمربَّع‭ ‬صعلكتنا‭ ‬أنْ‭ ‬ينفرط؛‭ ‬ولذا‭ ‬فعل‭ ‬ما‭ ‬فعل‭ ‬أمام‭ ‬شقيق‭ ‬خطيبتك‭. ‬

‭- ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أنتم‭ ‬ليسوا‭ ‬مع‭ ‬فكرة‭ ‬زواجي‭.‬

قال‭ ‬كزار‭ ‬بصراحتهِ‭ ‬المعهودة‭:‬

‭- ‬لأنَّ‭ ‬مكانكَ‭ ‬سيبقى‭ ‬شاغراً،‭ ‬ومن‭ ‬المحال‭ ‬إيجاد‭ ‬من‭ ‬يشبهك‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬ضلعنا‭ ‬الرابع‭.‬

هنا‭ ‬نهض‭ ‬الغجري‭ ‬حانقاً‭ ‬ولعن‭ ‬السماء‭ ‬ثمَّ‭ ‬هتفَ‭ ‬متحسِّراً‭:‬

‭- ‬غير‭ ‬الله‭ ‬يهدي‭ ‬أنخيدوانا‭ ‬حتى‭ ‬تتزوجني‭.‬

فضحك‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬شامتاً‭ ‬بعشق‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬الوهمي‭ ‬والمستحيل‭.‬


مشاهدات 154
الكاتب حسن النواب
أضيف 2024/12/09 - 4:01 PM
آخر تحديث 2024/12/22 - 9:21 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 325 الشهر 9507 الكلي 10065602
الوقت الآن
الأحد 2024/12/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير