ذات ليلة من سنوات الحصار، كان صديق الغجري يسهر في حديقة نادي الأدباء مع شقيق خطيبته؛ وقد أتمَّ عقد القران عليها حكومياً وشرعياً؛ وبانتظار موعد زفافه منها بعد إكمال مستلزمات العرس. لقد دعا شقيق خطيبته حيدر من البصرة ليحضر في تلك الليلة بهدف التباهي أمام أنظاره بأصدقائه من الأدباء والفنانين، كان صديق الغجري يجلس معهُ حول طاولة في أقصى حديقة نادي الأدباء، ويشير بيده بين حين وآخر على موائد الأدباء الآخرين، معرِّفاً شقيق خطيبته بهم.. هذا الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر؛ وهذا القاص عبد الستار ناصر؛ وهذا الفنان مقداد عبد الرضا؛ وهذا الممثل جواد الشكرجي؛ وهذا فلان وهذا علَّان؛ لم يكن شقيق خطيبته حيدر قد شاهد هذه الكوكبة من الأدباء والفنانين بأمِّ عينيه من قبل؛ برغم يقين صديق الغجري أنَّ شقيق خطيبته لم يكن مكترثاً للأدباء؛ بقدر سعادته لمشاهدة ممثلين ذاعت شهرتهم في ذلك الوقت. فهو شاب كادح بعيد كل البعد عن الأدب والأدباء، ومع ذلك كان لا بدَّ لصديق الغجري أنْ يدعوهُ حتى يعرف منزلة زوج أخته المستقبلي أمام هذه الأسماء اللامعة من الأدباء والفنانين، ولطرد فكرة خبيثة ولئيمة وصلت من حاقدين ومغرضين إلى عائلة خطيبتهِ، بأنَّ صديق الغجري مجرد صعلوك مشرَّد ينام على أرصفة الشوارع والحدائق المهجورة في بغداد؛ مما جعل عائلة خطيبته ترتاب من مستقبل ابنتها مع هذا الشاعر المعدم؛ وفيما كان صديق الغجري يشرب كأس الجِعة ببطء، حتى أقبل صديقه الغجري نصيف الناصري إلى مائدتهما، قال بعفويتهِ المعهودة:
- محتاج ربع عرق.
- تتدلَّل.
- مَنْ الضيف الذي يجلس معك؟
- شقيق خطيبتي.. حيدر.
كان الغجري نصيف الناصري يعرف بحكاية عقد قران صديقه على فتاة بصرية، إذْ استعار قميصه السمائي الذي كان يلبسهُ حتى يكون بمظهر مناسب أمام عائلتها عندما ذهب إلى البصرة لعقد قرانه عليها. هنا انبرى صديق الغجري وقدَّم صديقه إلى شقيق خطيبته باعتزاز:
- صديقي الأعز الشاعر نصيف الناصري.
- تشرَّفنا أستاذ.
ما أنْ عرف الغجري أنَّ الذي يجلس مع صديقه إنَّما هو شقيق خطيبته حتى فتح فمه بكلامٍ مثير للسخرية:
- عيني حيدر..
- نعم أستاذ.
- أنتَ لم تجد غير هذا المشرِّد ليقترن بشقيقتك؟
فغر حيدر فمه مذهولاً؛ فيما استمر الغجري بتهكمهِ الجميل:
– هذا جسمهُ مستوطنة للقمل، مع إنَّ نصف القمل أخذهُ مني.
ضحكَ حيدر مجاملةً، لينظر إلى وجه خطيب شقيقته باستغراب؛ فارتبك صديق الغجري وقد توهَّجت نياط قلبه بغضب عارم؛ فقد القدرة على الكلام لبرهةٍ، حتى تمكَّن أن يفتح فمه ويقول أخيراً:
- صديقي نصيف يحب المزاح عندما يسكر.
- لا مزاح ولا هم يحزنون، اتحدَّاك تنزع قميصك أمام حيدر.
- لماذا؟
- حتى يرى القمل الذي يعشش فيه.
- نصيف اشرب ربع عرق على حسابي؛ واتركنا.
- أريد نص عرق.
لقد نجح في ابتزاز صديقه؛ ليقول بجزعٍ وعلى مضض:
- لك ما تريد.
لقد جاء بشقيق خطيبته حتى يؤكد حظوتهُ بين الأدباء؛ وإذا بالملعون نصيف الناصري يضعهُ بين فكيِّه الساخرين ويزيد صورته قتامةً أمام عائلة خطيبته؛ وقبل أنْ ينصرف الغجري من المائدة قال لحيدر بوقاحةٍ:
- نصيحة لوجه الله؛ طلِّقْ أختك منهُ.
في اليوم الثاني عند الظهيرة وجد نصيف الناصري في حانة روافد دجلة يجلس مع كزار وجان دمُّو؛ بعد انضمامه إلى مائدتهم؛ قال بأسى وهو ينظر بحنقٍ إلى عينيّ الغجري اللامعتين كأنَّهما بركتي عسل:
- هل تقبلان ما فعلهُ ليلة أمس؟
أجاب جان بهدوء بينما راح كزار يضحك:
- الغجري لا يريد لمربَّع صعلكتنا أنْ ينفرط؛ ولذا فعل ما فعل أمام شقيق خطيبتك.
- هذا يعني أنتم ليسوا مع فكرة زواجي.
قال كزار بصراحتهِ المعهودة:
- لأنَّ مكانكَ سيبقى شاغراً، ومن المحال إيجاد من يشبهك حتى يكون ضلعنا الرابع.
هنا نهض الغجري حانقاً ولعن السماء ثمَّ هتفَ متحسِّراً:
- غير الله يهدي أنخيدوانا حتى تتزوجني.
فضحك صديق الغجري شامتاً بعشق نصيف الناصري الوهمي والمستحيل.