حلم يراودني، أحاول الإمساك به عبثا، حلم البدايات الجديدة، خلع أسمال الأفكار البالية وبعض العائلة وكل الأصدقاء.
ليست البداية الميتافيزيقية بأخذ فرصة حياة أخرى ( ومن لا يحلم بذلك) ولكن الخروج من ورطة حياتك البائسة هذه متسللا مثل أب مخبول يترك عائلته في ليلة باردة ولا شيء يستره أو يحميه غير دشداشة متهرئة ونعل خفيف وهو يدخن ميمما شطر وجهه للمجهول، البداية بلا نقود ولا عهود ولا التفات للوراء.
في بداية هذا الشهر فرضت علي غرامة جائرة قدرها مليون ونصف مليون دينار بعد إغلاق مكان عملي بالكتل الكونكريتية (اثنتان) لمدة شهرين، كنت عزمت على عدم الدفع، ببساطة لعدم امتلاكي هذا المبلغ كما أن الأمر لا يستحق، في داخلي كنت أتمنى غلق المكان رغم تعرضي لخسارة فادحة جراء ذلك والبداية من جديد، لكن من أين أبدا وكيف سيكون ذلك فأنا مقارنة بالأب المخبول، قد أمتلك النعل والدشداشة، لكن ماذا عن الجكارة والتدخين.
ذهبت أول مرة لمبنى البلدية وهو عندي أبشع من دائرة أمن صدام، وقلت لهم أريد الدفع، قالوا اكتب طلبا، رفضت وألقيت عليهم محاضرة عن البيروقراطية وسرطان الروتين وتشاجرت معهم وخرجت، ذهبت السكرة وعادت الفكرة، علي الدفع أو البدء من جديد حتى ولو بلا نعل خفيف، استسلمت وبعد يومين كتبت الطلب في البيت حتى لايكتبه موظف البلدية طلب استجداء مطعونا بالأغلاط اللغوية، كتبت طلبا مباشرا وخاليا من التوسل، بالطبع لم يقرأه أحد، صادرة غبية و واردة حمقاء والذهاب إلى الموظف المسؤول لينتهي الأمر بالمدير الذي أصدر فرمانه باستلام الغرامة، هذه ليست المرة الأولى، حصلت لي مرتين وكنت أضع مبلغ الغرامة بيد الموظف المسؤول بدون وصل استلام لأقوم بعدها بنفسي بمتابعة عملية رفع الكتل الكونكريتية، هذه المرة أصعدوني للشعبة القانونية، ورغم ابتسامة وتعاون مدير القانونية لكنه طلب مني البطاقة الموحدة فأجبته بأني لا أمتلك بطاقة موحدة وإنما وثائق التعريف التقليدية فقال بأن تلك الوثائق لا يتم تداولها اعتبارا من 1/4 المنصرم، حاول مساعدتي، حسنا جواز سفر صلاحيته غير منتهية، موجود لكن في البيت، حاول مساعدتي حتى يتم الرفع في نفس اليوم بأن أحصل ولو على صورة للجواز لكنه قال اغتنم بعض الوقت اذهب للصندوق حتى تأتيني بوصل الدفع قبل إغلاق الصندوق، نزلت مسرعا، موظف الصندوق يأكل الدولمة مع موظفات بدينات ضاحكات يثرثرن فتطفر نثارات الدولمة في الفضاء المتفسخ للدائرة، أخرجت فلوسي بخيلاء ووضعتها على مكتب موظف الصندوق ورائحة الدولمة تعط منه، قال، ما هذا، قلت وأنا أقدم له الطلب (المطموغ) بأختام وتواقيع وتهميشات، أجابني، لكننا لا نستلم نقدا بل بـ( الكي كارد ) أو بطاقات الدفع الإلكترونية، أجبت، لا أعرفها ولا أمتلك مثلها ولا اعلم كيف استعمالها، حاول مساعدتي أيضا باستخدام كي كارد أحد الموظفين لكن وقت الدوام كان قد انتهى.
في طريق العودة وتحت شمس ملتهبة سألت نفسي، أين أنت وكيف تعيش، حسنا أنت لا تعترف بهذه الدولة ولا هذا النظام، لكن لهذا النظام طرقه لإلحاقك به هامشا معدما ذليلا.
كنت أستغرب، بل أستهجن حماوة أصدقائي المقيمين في الخارج ولهم جنسيات وجوازات أخرى، حماوتهم ودأبهم على الحصول على بطاقة السكن والبطاقة الموحدة فيما أنا العراقي القح رغم أنفي أعتبر ذلك إهانة وتدجين وابتزاز.
ياه يا ألله، كم أنا متخلف وغريب ومنفصل عن الواقع والأسوأ من كل ذلك عدم امتلاكي للمرونة اللازمة للعودة لهذا الواقع، ليس كسلا فحسب ولكن كموقف أخير مثل ذاك الأب المخبول بنعله الخفيف.
في الماضي، وعندما أفكر ببداية جديدة أذهب إلى بار منعزل وأتخذ مكانا قصيا وطاولة منزوية ومعي كشكولي، فأبدأ بالشطب والحذف وكتابة الملاحظات وإسقاط الهواجس والوساوس على الورق فإذا مزقتها تطهرت روحي من تلك الدسائس لكني أعود إلى نفس النقطة التي كان علي الهروب منها، أجد وكأن من علي نبذه وطرده من حياتي أو الهروب منه، وكأنه قرأ أفكاري فهو يبدأ معي بداية جديدة وتلك هي حيلة وخدعة حتى ولو كانت بريئة.
اليوم لا توجد حانة كحانات الماضي، معدة ليرسم الفاشلون التعساء البؤساء الخطاؤون بداية جديدة لهم، ليس بسبب كابوس محرم الطويل جدا بل بتغير طبيعة الحانة.
لا علاقات لي مع أشخاص مهمين، لا علاقات لي أصلا لاستنجد بهم حتى أعيد انتمائي لهذا النظام، لا أعيده بل أخون نفسي لأكون منه ومنهم.
أتأمل نفسي فأرى نفسي عينة لا ينبغي أن تنقرض فهل يمكن البداية الجديدة بالعودة إلى الوراء، أكثف عزلتي وأسور وحدتي وأثمن ظلمتي، لكني ابن عصره دائما أو هكذا مايبدو لي، أبحث عن حركة كفاح مسلح أنتمي إليها وفي هذا هروب إلى الأمام وبداية جديدة حقا، فالانتماء هنا لا يحتاج كي كارت ولا بطاقة موحدة، يكفيه وجه متعب مثل وجهي، لكن تلك الحركات أصبحت مافيات للقتل وتهريب المخدرات، أذهب إلى الحزب الشيوعي فأسجل طلب انتماء، لعلهم( بسبب قربهم من النظام ) يصدرون لي تلك البطاقتين، فأذهب إلى ساحة الأندلس كل صباح للثرثرة أو تشييع وتأبين أحد الرفاق، هذا ما أراهم يفعلون، وبعد الظهر أجرجر جثتي إلى نادي إتحاد الأدباء حتى تنتفخ( كالاسفنجة ) بالكحول المغشوش، وهذه ليست بداية جديدة، بل نهاية تقليدية في جعبتي وفي بالي أفضل منها.
لماذا لا أصالح ذاتي المجروحة، أصدقاء تركتهم أو هجروني لكن داخلي كتلة صماء تصرخ صرخة( أمل دنقل ) لا تصالح..لاتصالح ولو حرمتك الرقاد..صرخات الندامة )).
أفكر بغلق صفحتي بنفس الحجة المعروفة ( أصدقائي..أعتذر عن التواصل معكم لأنني ليس بصحة جيدة )، لكن علي النشر ( أعتذر عن الكتابة والتواصل معكم لأني بصحة جيدة جدا ).
لاطريق مفتوحا لبداية جديدة، ولا فرصة للعودة إلى ذلك الماضي، فلا سبيل غير احتضان أخطائك…وتنام.