الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الإنتخابات ونظرية دوّامة الصمت

بواسطة azzaman

الإنتخابات ونظرية دوّامة الصمت

محمد أحمد علي

 

تتّسم الانتخابات العراقية في كل دورة بارتفاع مستوى الخطاب التعبوي الذي يخلط بين السياسي والديني والتاريخي، بحيث تتحوّل المنافسة الانتخابية من ساحة برامج وخدمات إلى ساحة صراع هويّاتي تُستحضر فيها الرموز الدينية والمعارك القديمة لتوجيه الرأي العام. وفي السنوات الأخيرة، برزت شخصيات سياسية وإعلامية مرتبطة بأحزاب وفصائل تتبنّى خطاباً يقوم على التخويف والتقديس والتجييش، ويعتمد على خلق حالة من الاصطفاف العاطفي. من بين هذه الخطابات ما يُنسب لشخصيات فاعلة في الشارع العراقي ، والتي تظهر أحياناً عبر تصريحات تحمل مضامين تتجاوز السياسة المباشرة نحو مستوى ديني– قدري يضع الجمهور أمام ثنائية «نحن» او»هم»، ويقدّم المنافسين السياسيين بوصفهم تهديداً وجودياً، كما في تصريحات تزعم التعرض لـ “غزو وإبادة” من جهات داخلية او خارجية، أو الادعاء بتمثيل امتدادات مقدسة مثل “أتباع آل محمد”، أو الإيحاء بأن خوض الانتخابات شأن اختاره الله لهم دون غيرهم. ويُضاف إلى ذلك استعارة أحداث من التاريخ المبكر للإسلام لتأطير المشاركة الانتخابية وكأنها امتداد لمعركة عقائدية وليست منافسة سياسية.

وفي موازاة هذا الخطاب، ظهرت في الساحة تصريحات من بعض الشخصيات التي تدعو إلى تقسيم المناصب والسلطات وفق الأعراف المتوارثة أو التوافقات الحزبية، متجاوزةً نتائج الانتخابات وإرادة الناخب. هذا الطرح، الذي يُقدَّم أحياناً على أنه “عرف سياسي” أو “توازن وطني”، يرسل رسائل سلبية إلى المجتمع مفادها أن أصوات الناس لا وزن فعلياً لها، وأن الهوية والانتماء أهم من صناديق الاقتراع. وهو ما يعزز الشعور العام بأن العملية الانتخابية مجرد واجهة شكلية، وأن القرارات الحقيقية تُحسم خلف الكواليس، في غرف التوافق لا في مراكز الاقتراع.

نتيجة صدمة

هذا النوع من الخطاب لا يمكن عزله عن نظرية دوامة الصمت لعالمة الاتصال (إليزابيث نويل) ، التي تفسّر كيف يهيمن صوت معيّن على الساحة العامة فيدفع الآخرين إلى الصمت نتيجة للصدمة والدهشة او الخوف من العزلة و الوصم. فحين يتكرر خطاب يزعم امتلاك الحقيقة الدينية أو يحتكر صفة «المدافع عن الهوية»، فإنه يُنتج شعوراً عاماً بأن هذا الرأي هو السائد، حتى لو كان جزءاً من ساحة أكثر تنوعاً. ومن هنا يتردّد كثير من المواطنين في التعبير عن مواقف مختلفة، خوفاً من تصنيفهم ضد «المقدّس» أو ضد «الجماعة»، فتتشكل حلقة مغلقة تُعيد إنتاج الخطاب ذاته وتُضعف أي نقاش سياسي عقلاني أو موضوعي.

إن استحضار أحداث تاريخية مرتبطة بالصراعات المبكرة في التاريخ الإسلامي، أو تصوير الانتخابات على أنها امتداد لمعركة قديمة، يؤدي إلى نقل النقاش من مستوى التنافس المدني إلى مستوى التعبئة العاطفية، مما يحدّ من قدرة الناخبين على تقييم البرامج الانتخابية بموضوعية. وهنا تصبح الانتخابات ساحة «ولاء» لا ساحة مساءلة، ويُختزل دور المواطن في الانحياز إلى الفريق الذي يبدو الأكثر انسجاماً مع هويته أو خوفه، لا الأنسب لقدرة الدولة على النهوض بمؤسساتها.

كما يؤدي تضخيم خطاب التهديد والاصطفاء إلى خلق رأي عام زائف يحجب الأصوات المعتدلة والرؤى الإصلاحية التي تمثل في الغالب شريحة واسعة لكنها غير قادرة على مجاراة الضجيج أو تحمل مخاطر التصادم. ونتيجة لذلك، تتراجع فرص النقاش الديمقراطي الحقيقي، ويتحول المجال العام إلى ساحة مغلقة يتنافس فيها من يمتلك أعلى مستوى من التعبئة، لا من يمتلك أفضل رؤية للمستقبل.

إن كسر دوّامة الصمت في العراق اليوم يتطلّب بيئة إعلامية مستقلة لا تضخم الخطابات المتشنجة، كما يحتاج إلى حماية حرية التعبير للناخبين، وتعزيز ثقافة سياسية تعتبر الانتخابات فعلاً مدنياً لا قدرياً، وخياراً اجتماعياً مسؤولاً لا ساحة صراع تاريخي. فالديمقراطية لا يمكن أن تستقيم في ظل خطاب يخشى فيه الناس من إعلان رأيهم، ولا يمكن أن تزدهر إذا بقيت الانتخابات رهينة الخوف والرمزية بدل البرامج والإنجاز.


مشاهدات 59
الكاتب محمد أحمد علي
أضيف 2025/11/11 - 5:29 AM
آخر تحديث 2025/11/11 - 7:52 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 284 الشهر 7574 الكلي 12569077
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/11/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير