أهمية اللحظة الراهنة.. هل الخيار السلمي ممكن في العراق؟
عباس النوري العراقي
الملخص
يشهد الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة تصعيداً سياسياً واستراتيجياً يتمحور حول إعادة رسم التوازنات الإقليمية، في ظل محاولات أمريكية متجددة — ذات توجهات “ترامبية” واضحة — لإضعاف محور المقاومة وإخضاع الفصائل المسلحة ذات المرجعية العقائدية، ولا سيما في العراق وإيران ولبنان.
يطرح هذا البحث فرضية إمكانية الانتقال من «المقاومة المسلحة» إلى «المقاومة الفكرية والديمقراطية» كخيار استراتيجي واقعي يستند إلى التجربة الإسلامية الأصيلة في إدارة الأزمات، مستلهماً نموذج الإمام زين العابدين عليه السلام ومنهجه التربوي في الصحيفة السجادية.
يهدف البحث إلى بيان أن هذا التحول ليس انبطاحاً أمام الضغوط، بل ممارسة سياسية حكيمة تُجنّب العراق حرباً مدمرة وتفتح آفاقاً للإصلاح والتنمية، دون التنازل عن الثوابت العقدية.
المقدمة
منذ مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يشهد العالم تحولات حادة في بنية القوة، خصوصاً في الشرق الأوسط. وقد تبنّت الإدارة الأمريكية ذات التوجهات “الترامبية” مشروعاً لإعادة هندسة المنطقة عبر الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري على إيران ومحور المقاومة، وصولاً إلى فرض واقع جديد يعيد توزيع مراكز القوة.
العراق، بما يمتلكه من موقع جيوسياسي وتركيبة اجتماعية عقائدية، يقع في قلب هذا الصراع. فالفصائل العقائدية فيه ليست مجرّد تشكيلات عسكرية، بل حركات اجتماعية ذات امتداد فكري وثقافي تشكّل جزءاً من الهوية العراقية الحديثة.
تُثار هنا إشكالية أساسية: هل يمكن للفصائل العقائدية أن تتحول من مقاومة مسلحة إلى مقاومة فكرية ديمقراطية تحافظ على مبادئها دون الدخول في صدامات جديدة؟
---
أولاً: الإطار السياسي والاستراتيجي
تعمل القوى الأمريكية والدولية على فرض «إعادة تموضع» لمحور المقاومة بهدف إضعافه أو إنهائه.
وفي هذا السياق، برزت ملامح ما يمكن تسميته بـ»الشرق الأوسط الجديد»، الذي تسعى واشنطن من خلاله إلى ضمان أمن إسرائيل وإعادة ترتيب التحالفات النفطية والأمنية في المنطقة.
العراق يجد نفسه أمام خيارين متناقضين:
1. البقاء في دائرة المحور العقائدي المقاوم وما يتبعه من تحديات داخلية وخارجية.
2. أو إعادة تعريف دوره في ضوء المصالح الوطنية، عبر دمج القوى العقائدية في مؤسسات الدولة وتحويلها إلى طاقة بنّاءة.
ويشكّل هذا التحدي اختباراً حقيقياً لقدرة العراق على الموازنة بين السيادة الوطنية والالتزام العقائدي.
ثانياً: البعد العقدي والثقافي في التجربة العراقية
الفصائل العراقية العقائدية تستمدّ شرعيتها من فقهٍ ديني مرتبط بمفهوم “الدفاع عن المقدسات” و“نصرة المظلوم”، وهو فكر متجذّر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
إنّ هذه الشرعية لا تُقاس فقط بمنطق الدولة الحديثة، بل بمنطق الوجدان الجمعي الذي يقدّس التضحية والشهادة.
ومن هنا، فإن أي مشروع لتحويل هذه الفصائل يجب أن يتعامل مع البعد الثقافي والروحي، وأن يطرح بدائل واقعية تحفظ القيم العقدية وتُبقي المقاومة حيّة في وجدان الأمة، ولو بأساليب مدنية وفكرية.
ثالثاً: استلهام تجربة الإمام زين العابدين عليه السلام
بعد مأساة كربلاء، اختار الإمام زين العابدين عليه السلام طريق الإصلاح الفكري والروحي بدلاً من المواجهة المسلحة.
ففي «الصحيفة السجادية»، أسّس لنمط من المقاومة الهادئة القائمة على التربية والدعاء وبناء الضمير الإنساني.
يمكن استلهام هذا النهج اليوم من خلال:
تحويل المقاومة من معركة بالسلاح إلى مشروع وعيٍ تربويّ يحمي المجتمع من الانحراف.
تعزيز الثقافة القرآنية والولائية كمصدرٍ للقوة الناعمة.
بناء خطابٍ إعلاميّ مقاوم للكذب والتضليل بدلاً من النزاع المسلح.
بهذا، تتحوّل المقاومة إلى مدرسة فكرية تُصلح ما أفسده السلاح دون أن تفقد روحها الرسالية.
رابعاً: المسار العملي للتحول الحضاري
يقترح البحث عدداً من الخطوات الواقعية التي تتيح الانتقال التدريجي من المواجهة المسلحة إلى المقاومة الفكرية:
1. إطار قانوني للإدماج: يتيح للفصائل الدخول في مؤسسات الدولة بضمانات قانونية وحقوقية.
2. برامج تثقيفية مستمرة: تستلهم الصحيفة السجادية ومنهج أهل البيت عليهم السلام في الإصلاح النفسي والسياسي.
3. تمكين اقتصادي للفصائل السابقة: عبر مشاريع إنتاجية وخدمية تضمن استقلالها المعيشي.
4. خطاب وطني جامع: يربط بين العقيدة والوطنية ويجعل حماية الدولة جزءاً من الإيمان.
5. ضمان سيادة القرار الوطني: كي لا يُفسّر التحول على أنه خضوع لإملاءات خارجية.
خامساً: الحكمة مقابل الانبطاح
إنّ الدعوة إلى الحوار وإعادة تعريف المقاومة لا تعني التنازل عن الثوابت.
فالحكمة السياسية في فقه أهل البيت (ع) هي «اختيار التوقيت والوسيلة التي تحفظ المبدأ وتجنّب الأمة الفتنة».
من هذا المنطلق، فإن الانتقال من المواجهة المسلحة إلى المقاومة الفكرية هو خيار عقلانيّ يجنّب العراق حرباً مدمّرة دون أن يُسقط حقه في الدفاع عن نفسه.
فالمقاومة بالكلمة لا تقل شرفاً عن المقاومة بالسيف إذا كانت غايتها حفظ كرامة الأمة ومصالحها.
سادساً: التوقعات وردود الفعل
يتوقّع أن تنقسم مواقف مؤيدي محور المقاومة إلى ثلاثة اتجاهات:
1. اتجاه تقليدي متشدّد يرى في أيّ تغيير خيانة للمبدأ.
2. اتجاه معتدل يرحّب بالتحول بوصفه ضرورة مرحلية.
3. اتجاه سياسي وطني يسعى إلى توظيف التحول لبناء الدولة القوية.
مرجعية دينية
نجاح الفكرة مرهون بمدى وضوح المرجعية الدينية والسياسية التي تتبناها، وبصدق النوايا في إدارة التحول.
سابعاً: النتائج المتوقعة
الحفاظ على وحدة العراق ومنع انزلاقه إلى حرب داخلية أو صراع بالوكالة.
بناء مؤسسات دولة حديثة تحترم العقيدة وتحتكر السلاح.
تحويل الطاقة الجهادية إلى طاقة معرفية وثقافية.
ترسيخ مفهوم «المقاومة المدنية» في الفكر العراقي المعاصر.
تعزيز السيادة الوطنية وقطع الطريق أمام مشاريع التقسيم أو التبعية.
ثامناً: الخاتمة والرأي الفلسفي
إنّ الدعوة لتحويل «المقاومة» من سلاح مادي إلى مقاومة فكرية وسياسية ومنهجية — مستندة إلى التربية الأخلاقية.
كما علّمها الإمام زين العابدين عليه السلام — ليست انبطاحاً، بل مشروع حكيم لإدارة الدولة وقت الأزمات.
إن نجاح هذه الرؤية يعتمد على تصميم عملية إدماج عادلة وضمانات اجتماعية ووضوح مرجعيّ يطمئن القواعد بأن الهوية والعقيدة محفوظتان.
وفي المقابل، فإنّ التسرّع أو الانقسام قد يُحوّل التحول إلى شرخ داخليّ، لذا التدرّج والشراكة الوطنية هما مفتاح النجاة.
---
الرأي الفلسفي المكمّل
إنّ الانتماء العقدي لدى شريحة واسعة من الشعب العراقي ليس ظاهرة طائفية، بل بنية روحية وفكرية عميقة الجذور تمتد إلى وعي كربلاء ومعنى الشهادة في التراث الحسيني.
بالنسبة للعراقيين، الشهادة فوزٌ لا تعلوه درجة، لأنها تعبير عن اكتمال الوعي بالحق ومواجهة الظلم.
ولذلك فإنّ محاولة إخضاع هذا الشعب لإرادات خارجية ستُقابل بوعي جمعيّ يرفض الإذلال، ويعتبر الصمود جزءاً من العبادة.
على القوى الدولية أن تدرك أن مواجهة العراق ليست مع جيشٍ فقط، بل مع منظومةٍ عقديةٍ تتغذّى من الإيمان والتاريخ.
إنها معركة رمزية خاسرة لمن يحاول كسر إرادةٍ تماهت مع مفهوم التضحية الحسينية، وهي إرادة لا تُقهر لأنها لا تخشى الموت بل تراه طريقاً إلى الكمال.
---
النتيجة العامة
إنّ المشروع المقترح في هذا المقال لا يستهدف تهميش المقاومة أو إنهاءها، بل إعادة توجيهها نحو البناء الحضاريّ والفكريّ بما ينسجم مع مصلحة العراق العليا.
وإذا كان الإمام زين العابدين (ع) قد أنقذ الرسالة بالكلمة، فإنّ العراق اليوم قادر على أن ينقذ وطنه بالعقل والحكمة، لا بالرصاص.
فالكلمة التي تُبنى على الوعي يمكن أن تُقيم دولة، كما أن الرصاصة التي تُطلق بغير بصيرة قد تُسقط أمة.
---
المراجع (إرشادية بصيغة APA مبسّطة)
Al-Islam.org. (2020). Al-Sahifa al-Sajjadiyya: The Psalms of Islam.
Chatham House. (2023). The Future of the Resistance Axis in the Middle East.
CSIS. (2024). US Policy toward Iran and Iraq: Strategic Assessment.
Al Jazeera. (2025). Iraq’s Militias and the Debate on State Integration.
University of Tehran Studies. (2022). Karbala Narrative and Political Consciousness in Iraq.