الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الإعلام بين الحقيقة والتسقيط. طريق إستعادة ثقة الشارع العراقي

بواسطة azzaman

الإعلام بين الحقيقة والتسقيططريق إستعادة ثقة الشارع العراقي

علاء العاني

 

منذ أن وُلدت أولى الحضارات على أرض الرافدين قبل أكثر من تسعة آلاف عام قبل الميلاد، ظلّ العراق مركزًا للحضارة والعلم والمعرفة والتنوّع الإنساني.

إلا أنّ ما شهده البلد خلال العقود الأخيرة من اضطرابات سياسية وأمنية واقتصادية، رافقته فوضى إعلامية غير مسبوقة، جعلت المواطن يقف حائرًا أمام سيلٍ من الأخبار المتناقضة، والبرامج المشحونة، والصفحات التي تُدار من جهاتٍ معلومة وأخرى مجهولة.

أصبح من الصعب أحيانًا التمييز بين الحقيقة والتسقيط، وبين الصوت الوطني الصادق والرسالة الموجهة التي تهدف إلى تفكيك النسيج الاجتماعي العراقي المتماسك.

المشهد الإعلامي الراهن

بعد عام 2003، انفجرت الساحة العراقية بكمٍّ هائل من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة والرقمية.

فوفقًا لتقارير مهنية، بلغ عدد المؤسسات الإعلامية في العراق — بما فيها القنوات الفضائية، والإذاعات، والصحف، والمواقع الإلكترونية — أكثر من ألفٍ ومئتين وخمسين وسيلة في إقليم كردستان وحده، بينما يتجاوز العدد الكلي على مستوى العراق هذا الرقم بكثير إذا احتسبنا المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، أن   المشهد الإعلامي العراقي  في بغداد وبقية المحافظات العراقية يتسم بكثافة هائلة على مستوى القنوات والمحطات و»بيوت الإعلام». وعلى مستوى العاصمة بغداد، تُظهر قواعد بيانات مهنية أن هناك حوالي 25 محطة تلفزيونية عاملة في بغداد حتى أيلول/سبتمبر 2025، بالإضافة إلى عشرات شركات و»بيوت إعلام» مسجلة في المحافظة.

وعلى مستوى البلد بأسره، تتفاوت التقديرات بحسب تعريف الوسيلة (قناة فضائية، محطة إذاعية، مكتب إعلامي، موقع إلكتروني أو صفحة على وسائل التواصل): فبعض المصادر الرسمية والإخبارية تشير إلى وجود أكثر من 300 محطة إذاعية وتلفزيونية ومؤسسة إعلامية مسجلة تعمل في العراق (إحصائية نُشرت في 2023)، في حين تشير تقارير أخرى إلى وجود نحو 57 قناة تلفزيونية مرخّصة و152 محطة إذاعية تخدم الجمهور العراقي، ما يعكس حجم الانتشار الكبير وتنوّع اللغات والجهات المالكة.

بالمحصلة، تُظهر هذه الأرقام أن الكمّ الهائل من القنوات والمحطات والمنصات — سواء في بغداد أو في بقية المحافظات — يجعل التحقق من المصادر والتقاطع بينها أمرًا أساسيًا لاستعادة ثقة الشارع العراقي بالمعلومة المنشورة.

تراجع الثقة… وأسبابه

حين تُصبح الأخبار سلاحًا، يتراجع دور الإعلام كمصدر معرفة.

لقد فقدت شريحة واسعة من العراقيين ثقتها بوسائل الإعلام بسبب:

1. التمويل السياسي الذي يُوجّه الخطاب ويُحدّد المواقف.

2. التحيز المذهبي أو القومي في التغطية أو التحليل.

3. اللغة العدوانية التي تستبدل الحجة بالشتيمة، والرأي بالدعاية.

4. تكرار الشائعات دون تحقق، وغياب مبدأ «التحقق قبل النشر».

وهكذا، تحوّل الإعلام من وسيلة لتنوير الرأي العام إلى ساحة تصفية حسابات، تُستغل فيها المشاعر والانتماءات لخلق انقسام اجتماعي وفقدان للثقة.

هناءيبرز التساؤل المهم ، كيف نميّز بين الحقيقة والتسقيط؟

استعادة الثقة تبدأ من وعي المواطن قبل أي إجراء تنظيمي أو حكومي.

ولذلك، يمكن للقارئ العراقي أن يميّز بين المعلومة الصحيحة والمفبركة عبر خطوات بسيطة:

1.فحص المصدر: من أين جاءت المعلومة؟ هل وسيلة إعلامية معروفة؟ هل للكاتب اسم واضح وسيرة مهنية؟

2. مراقبة اللغة: الأخبار الصادقة تُعبّر بعقلانية واحترام، أما الموجّهة فتستخدم التهجم أو الشتائم أو الإيحاءات.

3. المقارنة بين المصادر: لا تعتمد على مصدر واحد؛ فالمعلومة الصحيحة تظهر في أكثر من وسيلة مستقلة.

4. آلتفريق بين الخبر والرأي: بعض المقالات تُقدّم الرأي الشخصي على أنه حقيقة، وهنا مكمن الخطر.

5. التحقق من الصور والفيديوهات: التكنولوجيا تُستخدم للتضليل، فتحقق من التاريخ والمكان والسياق قبل التصديق.

 

نحو إعلام وطني موحِّد

الإعلام الحقيقي ليس منبرًا لتقسيم العراقيين على أساس العِرق أو المذهب أو القومية، بل هو جسر يوحّدهم حول الحقيقة والمصلحة الوطنية.

فبقدر ما كان العراق قويًا بتنوّعه التاريخي، يبقى مستقبله رهنًا بقدرته على الحفاظ على وحدة مكوناته وتماسك نسيجه الاجتماعي، بعيدًا عن التحريض والتأجيج.

 

إنّ إعادة بناء الثقة بين الإعلام والمجتمع ليست مهمة الدولة وحدها، بل مسؤولية مشتركة بين الصحفيين، والأكاديميين، والمواطنين، والقراء، كلٌّ من موقعه.

وعندما يُصبح الإعلام العراقي مرآةً حقيقية لضمير الشعب، لا أداة بيد الخارج أو الداخل المتنازع، حينها فقط تعود الكلمة العراقية الصادقة لتقود لا لتُقاد.

 

بين ضجيج التسقيط وصوت الحقيقة، يقف العراق اليوم على مفترق طريق.

فإمّا أن نسمح للفوضى الإعلامية أن تُكمل مهمتها في تشويه الوعي، أو نعيد صياغة الخطاب الإعلامي ليكون صوتًا للوعي والوحدة والكرامة الوطنية.

ولأن الحضارة العراقية أقدم من الأكاذيب، وأعمق من الضجيج، فلا بدّ أن يعود الإعلام العراقي إلى دوره التاريخي:

منبرًا للحق، ودرعًا للحقيقة، وصوتًا يجمع ولا يفرّق.

 


مشاهدات 50
الكاتب علاء العاني
أضيف 2025/11/03 - 12:49 AM
آخر تحديث 2025/11/03 - 7:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 233 الشهر 1752 الكلي 12363255
الوقت الآن
الإثنين 2025/11/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير