قراءة في الطائفية العراقية المعاصرة
العلاء صلاح عادل
في مفارقةٍ تستدعي التأمل والأسى معاً، يمرّ المجتمع العراقي بتحوّلٍ بنيويّ بالغ الدلالة؛ إذ تتراجع نزعة التدين بوصفها منظومة قيم وسلوك، فيما تتصلّب الطائفية وتتصاعد حدّتها في الخطاب والممارسة. لم يعد التديّن مرجعية أخلاقية ناظمة للعلاقات اليومية، بقدر ما غدت الطائفة هوية صلبة تُستدعى عند الصراع، وتُستثمر في السياسة، وتُستخدم كأداة حماية ومكاسب. نحن، عملياً، أمام انفصالٍ واضح بين “العقيدة” و“الهوية”، حيث يمكن للفرد أن يتخفّف من الصلاة والصوم، لكنه لا يتخفّف من متراس الطائفة. إنها حالة من اللادينية السلوكية المترافقة مع طائفية انتماء متشدّدة.
هذا المشهد ليس غريباً عن تشخيص عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، حين تحدّث عن “ازدواجية الشخصية العراقية”، إلا أن هذه الازدواجية اليوم ترتدي ثوباً جديداً أكثر قسوة. فالشعارات الدينية تُرفع بوصفها رايات تعبئة، بينما تُنتهك القيم التي قامت عليها الأديان نفسها؛ تُستدعى الطائفة كدرع حماية، ويُغيَّب الصدق والنزاهة واحترام القانون. وهكذا لم تعد الطائفة مذهباً فقهياً أو إطاراً روحياً، بل تحوّلت إلى عصبية حديثة تشبه القبيلة، يُستعمل فيها اسم الدين لتبرير الاصطفاف، فيما يغيب جوهره عن السلوك والمعاملة.
ومن منظور علم الاجتماع السياسي، يمكن فهم بقاء الطائفية – بل تمدّدها – رغم تراجع التدين، بوصفها “هوية دفاعية”. فعندما تفشل الدولة في أداء وظائفها الأساسية من أمنٍ وعدالةٍ وتكافؤ فرص، ينسحب الأفراد قسراً إلى هويات أدنى بحثاً عن الأمان. في هذا السياق، يصبح الدين منظومة قيم اختيارية تنظّم علاقة الفرد بخالقه، بينما تتحول الطائفة، في الواقع العراقي الراهن، إلى ما يشبه “شركة تأمين” اجتماعية وسياسية. لذلك قد يترك الفرد الدين باعتباره عبئاً أخلاقياً، لكنه لا يجرؤ على ترك الطائفة باعتبارها ضمانة بقاء في دولة هشّة.
وقد عمّقت سنوات العنف والفساد، المغلّف بخطاب ديني، هذه الأزمة، فأصابت الوعي الجمعي بصدمةٍ قاسية أدّت إلى تجريف المعنى الأخلاقي للدين. تحوّل المقدّس من بوصلة للضمير إلى سلعة للاستحواذ والهيمنة، ومع الزمن تشكّل وعي يرى في الانتماء الطائفي صكّاً للوطنية وتذكرةً للوظيفة والنفوذ، فيما تُختزل الاستقامة الأخلاقية إلى فضيلة فردية عاجزة عن الصمود أمام منطق الغلبة والمحاصصة. الخطر الحقيقي هنا لا يكمن في التديّن ولا في اللادينية، بل في إنتاج مجتمع متحلّل قيمياً ومتخندق طائفياً في آنٍ واحد.
إن الخروج من هذا النفق لا يتحقق بوعظٍ ديني جديد، ولا بحروبٍ على المعتقدات، بل ببناء دولة مدنية عادلة تكون هي نقطة البدء. فحين يشعر العراقي أن القانون يحميه بوصفه مواطناً لا تابعاً لطائفة، تفقد الطائفية وظيفتها النفعية وتبدأ بالتلاشي. وحين يُفصل الدين عن دهاليز السياسة تُستعاد قداسته، وحين تُحرَّر السياسة من الطائفية تُستعاد كفاءتها ومعناها العام.
لا تُبنى الأوطان على عصبيات جوفاء تفتقر إلى الضمير الأخلاقي، ولا تستقرّ في ظل هويات صراعية تتغذّى على غياب الدولة. إن استمرار هذه المفارقة – لا دينٌ قيميّ ولا دولة عادلة – ليس إلا استنزافاً بطيئاً للروح الوطنية. فالدين بلا أخلاق يتحوّل إلى تعصّبٍ أعمى، والطائفة بلا دولة ليست سوى مشروع صراعٍ مؤجّل.