التعليم العالي في العراق من واقع التراجع إلى آفاق الإصلاح
عبد الرزاق محمد الدليمي
تشير كافة المؤشرات الدولية والمحلية إلى أن التعليم العالي في العراق يمر بمرحلة حرجة وتأزم من التراجع الممنهج الذي مسَّ جوهر العملية التعليمية وهو واقع يفرض على الغيارى من الأكاديميين وصناع القرار إعادة النظر جذرياً في آلياته وجودته. إن استعادة هيبة التعليم العالي العراقي وسمعته الدولية (كان التعليم في العراق هو الأفضل عربيا واقليميا)الذي كان يوماً مناراً للمنطقة ! وهذه العملية تتطلب وقفة جادة لتشخيص الداء ووضع العلاج الأنسب عبر تفعيل حقيقي للهيئات والمؤسسات التعليمية بعيداً عن التدخلات السياسية وان أسباب تراجع التعليم العالي في العراق (تشخيص الأزمة).
مناصب اكاديمية
لا يمكن الحديث عن حلول دون الوقوف على أسباب «المأساة» التي حلت بالمؤسسة الأكاديمية ؟؟ والتي يمكن تلخيصها في المحاصصة والتدخل السياسي وخضوع المناصب الأكاديمية (من رئيس جامعة إلى عميد ورؤساء الأقسام ) لمنطق المحاصصة الحزبية مما أدى إلى غياب الكفاءة وتغليب الولاءات على التميز العلمي الامر الذي ادى الى هجرة العقول بسبب التهديدات الأمنية حيث تعرضت النخب الأكاديمية للتصفية والتهجير القسري مما أفرغ الجامعات من كبار العلماء والباحثين اضافة الى انتشار التعليم الأهلي غير المنضبط لاسيما بعد تحول التعليم إلى «سلعة» من خلال التوسع العشوائي في الجامعات الأهلية التي يفتقر الكثير منها لأدنى معايير الجودة وهدفها الربح المادي فقط وكذلك تآكل البنية التحتية بسبب تقادم المناهج وتدمير ممنهج (المختبرات والمكتبات )وغياب الدعم المالي الحقيقي للبحث العلمي نتيجة الفساد الإداري والمالي ناهيك عن أزمة الشهادات الوهمية والمزورة لاسيما بعد تفشي ظاهرة الشهادات العليا المزورة وكذلك غير الرصينة الممنوحة لأغراض سياسية أو وظيفية مما أضعف القيمة العلمية للمخرجات التعليمية؟! وتحديد أولويات الإصلاح و (الحلول الممكنة)لإيقاف هذا التدهور !!! يجب أن تتحول أجهزة الإشراف والتقويم في وزارة التعليم العالي إلى «سلطة مستقلة» وان تضع همها الاول التركيز على وضع معايير وطنية صارمة وغير قابلة للاختراق حيث يجب إخلاص معايير الجودة من أي تأثير سياسي ...بحيث تشمل تقييماً حقيقياً لأعضاء هيئة التدريس (بناءً على البحث الرصين لا الكم) وتحديث المناهج لتواكب التطور العالمي وتأهيل البنى التحتية بما يليق باسم العراق وهذا لا يتم الا من خلال التقييم الشفاف والمستقل اذ يجب أن يعتمد تقييم الجامعات على «أدلة دامغة» وزيارات ميدانية من لجان مستقلة (وربما دولية) مع ضرورة إعلان نتائج التقييم للرأي العام وتصنيف الجامعات حسب جودتها وإغلاق الأقسام والجامعات التي لا تلتزم بالمعايير الأدنى للجودة وكذلك حماية استقلالية الجامعات وحقوق الطلبة من خلال تحمل مؤسسات الجودة مسؤولية حماية الطالب من استغلال بعض الجامعات الأهلية، وضمان حصوله على تعليم حقيقي يؤهله لسوق العمل وليس مجرد «ورقة تخرج» لا قيمة علمية لها ..
ضوابط علمية
وهنا لابد من الاشارة الى ضرورة مكافحة الفساد الأكاديمي عن طريق الضرب بيد من حديد على ظواهر السرقات العلمية وبيع البحوث والشهادات الممنوحة خارج الضوابط العلمية، ....واستعادة هيبة «الأستاذ الجامعي» كقدوة علمية وأخلاقية وهنا لابد من الاشارة الى ضرورة وضع موازنة الأولويات لإنقاذ المستقبل وهذا لا يتم الا بتحقيق التوازن بين «الكم» الهائل من الطلبة و»النوع» المفقود اذ يتطلب استراتيجية وطنية شاملة وهنا يجب التركيز على : فصل الأكاديمي عن السياسي بإنهاء نهج المحاصصة في إدارة الجامعات فوراً واعتماد معيار الكفاءة فقط كما يجب العما على الاستثمار في الإنسان بإعادة جذب الكفاءات العراقية المهاجرة وتوفير بيئة آمنة ومحفزة لهم للعودة والمساهمة في بناء الوطن اضافة الى الربط مع سوق العمل عن طريق تحويل التعليم من التلقين إلى الإبداع والابتكار بما يضمن أن يكون الخريج العراقي قادراً على المنافسة في السوق الإقليمية والدولية .. اضافة الى ضرورة وضع الرقابة الصارمة على التعليم الأهل بإخضاع كافة الجامعات الأهلية لمعايير الاعتماد ذاتها المطبقة في الجامعات الحكومية الرصينة وإلغاء رخص الجامعات والتخلص من ظاهرة الدكاكين؟؟!!!
إن ضمان جودة التعليم العالي في العراق ليست ترفاً فكرياً، بل هي معركة وجودية لإنقاذ مستقبل الأجيال. إن التعاون بين الأكاديميين الشرفاء والمنظمات الدولية والمجتمع هو السبيل الوحيد لضمان أن تعود الجامعات العراقية إلى طليعة المؤسسات المتميزة ولن يتحقق ذلك إلا بانتشال التعليم من براثن الفساد والسياسة ووضعه في مساره العلمي الصحيح.