زيارة الى أسرة القيادي الشيوعي حسن عوينة
أسرار قدرة عوينة على إقناع خصومه التقليديين وهو في المخابىء
كيف أنقذ قومياً من تظاهرة غاضبة في النجف؟
احمد عبد المجيد
خاض العراق، في تاريخه المعاصر، ببحور من الدم، وترك في قلوب الضحايا وذويهم وجعا لن يزول، وفي نفوسهم جراحاً لن تندمل. وبرغم محاولات التطبيب او جبر الخواطر، يبقى استذكار الوقائع ينطوي على آلام لن تبرح الروح. ومن بين حوادث الدم المراق على خارطة الوطن، تبرز وقائع التصفية الجسدية (غير المبررة) كما وصفها احد رموز فكر التسامح، التي شهدها انقلاب شباط 1963، فثمة انتقامية صارخة لا يمكن تفسير جذورها ولا يمكن تسويغ دوافعها، تورط بها عراقيون ضد عراقيين يحملون ذات الهوية وبصمة الولاء.
وكنت وما برحت اتحسس عيني او ألمس احد اطرافي او اضع راحتي على قلبي، وانا استرجع ايام شباط، التي اطاحت بعبد الكريم قاسم ورفاقه، وابادت خيرة قيادات اليسار العراقي وفتحت ثقوبا في أجساد نساء بعمر الورود وشباب لم يدخلوا عش الزوجية ولم يعيشوا افراح الاباء واعراس الاحفاد.
اسرة القيادي
وحين عرض عليّ المفكر والباحث الكبير عبد الحسين شعبان قبول دعوة تلقاها من اسرة القيادي في الحزب الشيوعي حسن عوينة، وافقت على الفور، الانضمام اليه. وقبل يومين من الاتفاق معه ظلت تدور في خاطري صور ضحايا شباط (الاسود) كما يسميه البعض، ابان كنت تلميذاً في الصف الخامس الابتدائي. لقد عشت مثل رهطي من تلاميذ المدرسة تناقضات الانقلاب الذي حول المدرسة الى ثكنة للحرس القومي نتيجة دوام بعض المعلمين البعثيين وهم يرتدون الخاكي، وأحال المكتبة المركزية وسط مدينة كربلاء، الى معتقل للتعذيب، في وقت لم يكن من السهل علينا طي صفحات ثورة 14 تموز 1958 وخطابات زعيمها وصوره التي دخلت قلوبنا الصغيرة أو استقرت في كراساتنا المدرسية.
كان حسن عوينه واحد من قلة من الشيوعيين الذين يحتلون رضا الشارع، سواء بماضيه، كشاعر وناشط متفاعل، او بداياته في مدينة النجف أو بتوالي انتقالاته التي املتها ظروف كفاحه الوطني، الى بغداد والى مدن اخرى. وربما لهذا السبب ادركت قول شقيقه السيد مسلم عوينه الذي رافق الشهيد حسن في صباه (ان ابا فلاح قليلاً ما كان يرى)، وهذه هي الكنية التي ظلت تتردد على لسان مسلم (ابو رائد)، طيلة الجلسة في منزله بمنطقة القادسية في بغداد، وحين استفهمنا عن السبب قال (ان ابا فلاح كان دائم الغياب عن منزل العائلة. فهو اما ان يكون متخفيا من مطاردة عناصر النظام، او مسجونا بتهم ادارة التنظيم الشيوعي في النجف وعموم العراق. اما عن مأواه الذي يلجأ اليه في الغالب، فهو مساكن اخواله من آل قريش الذين كان معظم افرادهم رجال دين يختلفون معه في الفكر، ويتعاطفون معه في الولاء الاسري، فهو ابن اختهم الذي يمتلك كارزما تجعل الواحد منهم منجذبا او مدفوعا الى اطروحاته اليسارية. ومرة – يقول ابو رائد – ابلغ احد اخوالي، والدتي (ان ابنك يستطيع ان يكسب الجميع الى صفوفه، فيما لو عاش بينهم لمدة عشرة ايام فقط)! كان حسن عوينة يمتلك الايمان بالعقيدة الايديولوجية وهي عقيدة الطبقات الفقيرة والمحرومين، ويمتلك الحجج اللازمة لاقناع الناس بصواب منهجه وامكانية تحقيق طموحاتهم في الحرية والمساواة والقضاء على الفوارق الطبقية وبناء مجتمع متعلم، ينأى بنفسه عن اي مظهر من مظاهر الجهل والتراجع.
وجدت مسلم عوينة الذي يتجاوز الثمانين من عمره يمتلك ذاكرة حديدية، فهو يحفظ الشعر ويقرظه ويسرد الحوادث واسماء شخوصها، برغم ثقل اعباء حياته نتيجة انخراطه المبكر بالعمل السياسي، ولا شك في ان بعض هذه الاعباء ناجمة عن سجله، كشقيق للشهيد حسن عوينة. ففي تلك الايام لم يكن سهلا على منتم سابق للحزب الشيوعي الاستمرار في حياته الاعتيادية، دون سين وجيم، فما بالك اذا ما كان هذا المنتمي شقيقا لمعتقل في قصر النهاية استشهد مع سلام عادل تحت طائلة التعذيب الوحشي.
ويسجل السياسي الراحل تحسين معلة، وهو من ذات المدينة التي ولد فيها عوينة وترعرع ودرس المتوسطة في مدارسها، انه زار قصر النهاية بعد شباط 1963، لمعاينة أحوال المعتقلين بوصفه طبيبا، وصادف عادلاً وابا العيس وعوينة واخرين وهم في حالة مفجعة، نتيجة التنكيل وشدة التعذيب، لكنه لم يمتلك الا الاشادة بصمودهم وقدرة تحملهم التعذيب وعدم الاعتراف. ومن بين سطور مذكراته التي اعدها ودققها سيف الدين الدوري ودونها مهدي السعيد وصدرت في لندن عام 2023، نقرأ شيئا من التعاطف الانساني مع الضحايا، برغم ان معلة كان قياديا بعثيا انذاك.
واكد (ابو رائد) ان شقيقه اعتقل بالدار ذاتها، التي كانت وكرا لقيادة الحزب الشيوعي، عند الاطاحة بعبد الكريم قاسم، وان الاخرين معهم تم ضبطهم فور مجيئهم الى الوكر الذي يقع في منطقة الكرادة الشرقية، لتلقي التعليمات من القيادة، بشأن التصرف المطلوب لمواجهة الموقف.
لم يكمل حسن عوينة الدراسة، واكتفى بشهادة المتوسطة، نتيجة انصرافه الكامل الى العمل السياسي وتكليفه بادارة تنظيمات الحزب، الا ان عبقريته المعلوماتية انتقلت الى نجله فلاح، المقيم حاليا، خارج العراق وتخصص بعلوم الذرة.ومما يذكره ابو رائد عن شقيقه ايضا، دوره في انقاذ مهدي بحر القيادي في الحركة القومية من غضب تظاهرة حاشدة في ميدان النجف اتجهت لسحله، لولا تدخل عوينة والاعراب عن عدم رضا قيادات الحزب الشيوعي، عن اي اعمال شغب او انتقام. فهو لم يكتف بان أفلته من بين ايدي مستهدفيه حسب، بل رافقه الى طريق آمن لتهريبه الى داره. لقد ظلت هذه القصة ماثلة في اذهان كثيرين. ويسرد (ابو رائد) المتقاعد حالياً بعد رحلة في دراسة الاقتصاد والتجارة، واقعة صادفها بعد اكثر من ربع قرن من الزمان في شارع ستة بمنطقة العلاوي ببغداد، عندما كان بصدد شراء ادوات احتياطية لسيارته من احد المحال، وعندما تعرف اليه صاحب المحل (..... العامري) الذي كان قبل تقاعده معلما في احدى مدراس النجف في تلك الحقبة، طبع قبلة على وجهه واعفاه من اثمان متراكمة من شراء الادوات، اكراما لموقف حسن عوينة، واكد الرجل انه (منذ حادثة مهدي بحر ادرك ان قيادة الحزب الشيوعي تعارض فوضوية ردود الفعل وعدم شرعيتها ازاء الخصوم من القوميين وسواهم).
طبيعة سلمية
ليس من الصعب اكتشاف الطبيعة السلمية والمجتمعية للبيئة التي عاش بها حسن عوينة وعائلته. فهو ينتمي الى اب عرف بالزهد والتقوى والدرس الحوزوي، وام تنحدر من اسرة تطوعت لخدمة الدين وتعليم العامة، فضلا عن الزخم الذي منحته اياه مدينة النجف، مثوى الامام علي بن ابي طالب، ومنارة العلم والجهاد ضد الاحتلال البريطاني، والانفتاح على ثقافات العالم عبر مدراسها الدينية وزيارات المؤمنين للمرقد المقدس.
غادرنا انا والدكتور شعبان، منزل (ابو رائد)، تسكننا اوجاع تلك الايام التي منحت أشخاصاً لم يبلغ أحدهم الثلاثين من العمر، سطوة الانتقام الوحشي، من ابناء جلدتهم بذريعة اختلاف الرأي والمعتقد السياسي، في ما يكون العامل الخارجي المغذي الوحيد الذي يأتي يهؤلاء بقطار امريكي او بارادة من هذا الطرف الدولي او ذاك، لكن الالم ظل في حدوده الزمانية والمكانية، على امل ان يكون المستقبل كفيلا، بوأد الفتن وتضميد الجراح وابقاء العراق فوق كل قامة واعلى اي مسمى.
كنا الاثنين او ربما كنت انا وحدي، وقبل أن نستقل سيارة سبط (ابو رائد) لاعادتنا الى فندق بغداد، نسترجع مقولة القس الالماني مارتن نيمولر (1892 – 1984) (في اول الامر اتوا...). وأتوا مرة أخرى وفعلوا ما فعلوا.
طيب التحايا..
أيّةُ هدية أثمن من خير جليس؟!
أغرقتني بفضل عظيم بهداياك الغالية استاذ أحمد .. وحينما بدأتُ بقراءة الحروف الأولى لسفْركَ الثمين (خير جليس وأسماء ملهمة) شعرت أنني أمام جليس له دور الريادة فيما اختار وفيما تناول من اشخاص لكلٍ مقامه الكبير في موضوعه . سلمت اليد وعاش القلم وتبارك الجهد .
مع مزيد المحبة وفائق التقدير.
مسلم عوينة