الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بلادُ العم لام ليوسف المحسن ..  غرائبيّة وميثولوجيا في عوالم واقعيّة


بلادُ العم لام ليوسف المحسن ..  غرائبيّة وميثولوجيا في عوالم واقعيّة

نجم الجابري

 

مدخل:

روايةُ بلاد العم لام للروائي  يوسف جابر المحسن هي سيرة ملحميّة على وفق فرضيّة تدّعي انّ الأصوات مادّة، والمادّة لاتفنى ولا تُستحدث ولا يمكن خلقها من العدم، ولملمة حكايات من اعماق تضاريس التاريخ بحثاً عن حقيقتها يأتي به الفضاء السردي، فهي قصص حبٍّ وانتقام ومواجهات وضغائن ودسائس وصراع على السلطة ومعها.

مماليك على الضفة اليمنى من نهر الفرات وفي  اوروك القديمة يسود فيها العرف القبلي لكنّها تسير وفق غرائبيّة وتنظيم مُدهش، حيث يحتفظ الأفق بحكايات لا تنتهي عن العشاق والإقطاعيين  والمنبوذين، كلُّ ذلك في مملكة الطين.

  الى جانب مسار أحداث الرواية (الواقعيّة الممتدّة الى العام 2026) يستنطق يوسف المحسن ويعيد تدوير وصياغة أحداث تاريخيّة لطغاةٍ وحكّامٍ وكنوز من الياقوت والذهب، ممسكاً فرشاة السرد بأحترافيّةٍ عالية وجماليّة لا توصف،  فالذي يفتح فمه، يكون فمه مأوى للذباب، بهذا المثل السومري أوقد في رأس القاريء إصراراً على التحدّي والغوص في هذا الموج السردي المتلاطم من الوقائع والأخيلة والافكار والمعتقدات والانتقال بين أحداث مازالت هائجة في عصور مختلفة.

 

وَهْمُ القارئ:

تلك المتاهات سرُّ عبقريّة واحترافيّة يوسف المحسن، فهو يأخذك  إلى مواقع العتمة حاملاً شعلتك الوحيدة في ذاتك الإنسانيّة ويذهب بك وعلى قدميك الى تيهٍ مفترض في جغرافيّةٍ انت تعرفها لكنّك تراها للمرّة الأولى في أجواء الرواية،  مهندس يامِن أو تاليتا(الصقر الميكانيكي) او حكايات العم لام، تعاقبٌ لجرِّ الرواية وخلخلة عمليّة سبكها التي توهم كثيراً وتراوغ لتخيط شبكتها العنكبوتيّة في رأس القاريء،  ليجد نفسه مترنحاً منتشياً بين قصصها التي أحصيت بمئه مقطع وب 359 صفحة من الحجم المتوسط وإن كانت اكثر اتساعاً ومخفيّة بين السطور الذي حمله مطبوع المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر.

 

محكيّات المتحف:

عبر مسارات متمايزة في فهمها وبساطة شخصياتها يقحمك المحسن في عالم من الميتافيزيقيا الظاهرة، في حصن (الگصير)  التاريخي اقصى جنوب مدينة السماوة ينسج أمكنة في ذهن المتلقّي أو يعيد ترميمها بمحكيّاته الصوتيّة بين (الگارات) و الفيضات المنبسطة حيث الصراع مع القساوة، والقساوة التي تقترن بالصراعات، فهو المُكتَشف الباحث عن كنز الحكايات المتوارية، والساعي لانتشال الاصوات السالفة من مقابرها ومدافنها كما يفعل مع الألغام الحربيّة، هنالك في قرى ممتدّة مع ضفاف نهر الفرات وصولاً الى عمق البادية الجنوبيّة.

ص1

انتقالات معرفيّة

 

في محكيّات تضجُّ بالمثير والمُدهش من الانتقالات المعرفيّة من التاريخ إلى الجغرافيا ثم إلى الآراء النقديّة والميثولوجيا وحتى الدين مروراً بنوازع الغيرة والحب والشهوة والجنس المتواري وصولاً إلى عادات الشعوب وقيمها وخبراتها ومجاهلها وصفات الحيوانات مروراً بعصارة المعرفة الشعبيّة وهي الامثال، يقول "العراقي امّا يرفعك على رأسه أو يدوسك على راسك".

الحقيقه والتيه:

بلاد العم لام رحلة فكريّة وفلسفيّة وبغرائبيّة تبقر بطن التاريخ وتتحدّث مع الضائعين والهاربين والمعدومين والمغيّبين والمدفونين والمخصيّن، مع الإبل المعدومة والشجيرات المقطوعة والالغام المنتظرة على أحرِّ من الجمر، تستنطق الكنوز التي تقتل خازنيها، والحكايات التي تقفل فم الباحثين عنها، في النهاية هي رواية تجعل المتلقّي مهما بلغت ثقافته وموارده المعرفيّة حائراً بين تصديقها أو النظر إليه كوثيقة جماليّة سرديّة سرياليّة.

 

العم لام :

طرحت  أحاديثها وأحداثها في أربع ثوان فقط، حُشِرَ الزمن فيها ومرّت الأحداث كشريط التسجيل بين ظهور المارد الكاسح القابض لروح بطل الرواية وهو يلتقط درّة بمثقالين، ومثلما فعلها يوسف المحسن في روايته (النسّاي) حيث الفضاء السردي الذي دُجّنَ قبالة حائط الموتى خلال ليلة واحدة، لهذا فبلاد العم لام رواية ميتافيزيقيّة لو صح التعبير، لأنها عالم ما وراء الفنتازيا، أليس غريباً أن تستمرّ مجريات رواية حتى بعد صدورها !.

حكاية  المهندس يامِن وهو مهندس الألغام الذي يُحصي الأصوات ويوثّق الاحتلالات في ذاكرته المكتنزة ب(حدوته) العم لافي .

 

مسلخ التاريخ:

استدراجات يتخيّلها (يامِن) ويستنطق أبطالها، تبدأ من شماغ المدفون أو المعدومين وكيف استعرض النبال والنصال التي مرّ أهلها  في هذه الجغرافيا في الدراجي و قرية أم 50 ووادي  الگصير  و بلدة الخضر و أوروك القديمة،  فهي مفترق الطرق وملجأ الحكايات المتساقطة والذي يتوسّط المدن القديمة (بغداد والكوفة والبصرة).

 

الصفحات والمقاطع:

في كلِّ صفحة وفي كلِّ مقطع بمعنى أدق يجد القاريءُ نفسهُ أمام تواريخ لا تصدق حدثت في واحدة من زوايا الكوكب، وكأنّها سرديّة الإنسان وروحه الهائمة ومشتركاته في البوح.

ص2

تذكر تاريخ بناء القلاع و اسماء المخترعين واقوال الفلاسفة والأدباء وعلماء النفس إنَّهُ استخدامٌ ذكيٌّ للمثاقفة النصيّة في متنه السردي بشكلٍ لافت وعجيب، كيف يتمكّن الروائي أو شخوص الرواية من حفظ التواريخ التي تتجاوز المئات، يستحضرونها في محلِّها ضمن القالب السردي محكم السبك، نجد الامثال الريفيّة وحتى الحكم القرآنية والمقولات التي قالها فلاسفة ومفكرون في غفلة من العالم المدجج بالانشغالات التقليديّة، وثمّة موضع لوصايا الآباء وللهوسات والاهازيج الحربيّة وكلّ شيء لم تخبره.

 

هذيانات مستمرة

في بلاد العمّ لام هذيانٌ مستمرٌّ ، ربّما لأنها رواية أصوات أكثر من كونها رواية احداث، انفعالات مبرّرة وأوهامٌ حقيقيّة،  مجموعة أضداد تُسوق محاكاة للعوالم السفليّة بلغةٍ عصريّة ومزاوجة بين التواريخ، فبين الأمس واليوم أشياء يتحتّم تجديدها في ذهنية (ذي الأذنين السيّابيّتين).

 

في محلها:

اهازيج اقحمها المحسن في محلها وفي مكان حدوثها في المائة الثانية من صفحات روايته(ص202)،  دمج أكثر من قصّة أو موقف في صفحة واحدة،  وتغيير لمسار السرد من عبقريّة فذّة وقدرة هائلة على الانتقالات المدهشة، شيء صفعني، يقول سيجموند فرويد بأنّ اشقى مخلوقات الارض هو الانسان بذاكره قوية، وهكذا انا يا يوسف المحسن ويا فرويد العظيم كتبٌ محشوّة حشوا غير منتظم في عقليّة مهندس يامن.

 

مقارنة وقراءة فلسفية:

في السرد المكثّف يكشف المحسن عن مقارنة بين عصرين، عصر آلة المهندس التي تستقطب الأصوات المحلّقة في الغياهب والفضاءات، وعصر جهاز التسجيل، ويعقد مقارنة بين (يامِن) وبين عوفي المهبول، وكأنَّ الحاجة ماثلة لقراءة فلسفيّة مركّبة لهذا التضاد الذي يوفّر  الفرصة لإعادة تدوير الأحداث، فهل يعني ذلك  الإيمان بالتناسخ، وأنَّ التاريخ يُعيد نفسه مع اشخاص جدد  وفي أماكن مختلفة،  نعم.. إعادة تدوير الأحداث والتواريخ وحتى الامكنة عبثٌ في فضاءٍ غرائبي مدهش.

ص3

 مقارنة بين عبور خط الاستواء وبستان (النواص) في مدينة أوروك (الخضر حاليّاً)، وهي بلدةٌ تحتلُّ جزءً من مخزون المحسن الحكواتي.

 

الشخوص:

مهندس يامِن، عفّوره الدبية، تاليتا، العم لام، حصن الگصير، مراكز الاحداث وحولهم تدور آلة السبك الروائي الذي حصل في لمحه بصر،

سكارى كائنات افتراضية تتناسخ تفكر تتوهّج لا شيء سوى انها في حلم يقظة.

تاليتا (الصقر الميكانيكي) وكما يبدو  هي جهاز صمّمه المهندس يامِن، لصيد الأصوات الغابرة،  يجلس متكأ على منتصف الطريق  وآلته تشرح له سيل الأصوات الهائل وهو الباحث عن كنوز الأمير (ذيل الحصان) التي اخفاها عن حاشيته وضاعت على الجميع بعد مقتله، وتاله البولنديّة التي قضت قرب اوروك بعد أن قدمت  من بلدها للاحتفال بعيد الميلاد مع حبيبها، احلام ضائعه لتالا ويامِن والعم لافي (الهتيت).

 

زمن الحقائق ومناظره:

في صفحات العم لام يجد القاريء مناظرة للحكواتي بين الهاتف النقّال والزمن البسيط، نهايات مفتوحة تقف عند خط مشروع جديد، فالغرائبيّةُ تكمن في التفاصيل الغريبة المرعبة،

والسارد لم يتحدّث عن نفسه، وهو في الحقيقه بطل روايته دون ان يدرك أو يشعر بذلك، فالابطال يتحدّثون مع بعضهم ويتجادلون ويتخاصمون ، وسواء صديق يامِن (مُخلَّد)أو عمّه أو حتى فرسان العصور السابقة من كلكامش حتى عصرنا هذا، وثمّة أتكاء على جانب المضيف الشمالي أو جانب قصر الگصير الجنوبي، ابطال (المحسن) يهربون من قصصهم ويحاورن ويتداخل معهم في سبك متراص بين الأحداث والواقع

ص4

 

تجليات الغرائبي في رواية العم لام:

لأنَّ الغرائبيّة من سمات الموروث الشعبي في المتن الحكائي العربي التقليدي، لكنَّ في هذا السرد رواية العم لام تمت لملمة التراث العراقي بأكمله منذ فجر الحضارات مروراً بكلِّ الاحتلالات والمدن والحضارات والفرسان والطغاة والفلاحين، انّها منهل انساني ابدع المحسن فيه وفي رسم دلالاته عبر غرائبيّة تجديديّة سرديّة تستدعي التأمل والإعجاب، ففي نهاية الرواية تتشكّل خوارزميّات جيّدة بين الموت والحياة وحقيقه انّ الإنسان يمرّ أمامهُ  شلّال اعماله وما اختزنه في حياته قبل الموت، ويحقّ لنا التأشير بدهشة في ضوء تحوّلات السرد عند يوسف المحسن في تلك الأزمنة وإظهار ما هو حقيقي وما هو تخيلي.

 

الخيال المبدع المبتكر:

في هذه الرواية مارَس المحسن أسلوبا جديداً في كتابة الرواية، لابدَّ من الإقرار بذلك، حيث اعتمد الخيال الخلّاق ضمن حدود المعقول والمنطقي والتاريخي وحتى الواقعي انه الخيال المبدع المبتكر الذي يرشُّ العطر في كفّي القاريء كحقيقة قبل أن يتطاير ويتحوّل إلى اسطورة توزّع الأسئلة.

لقد غادر المحسن  وبجرأةٍ غير مسبوقة كلّ محطات كُتّاب الرواية القديمة والتي تتحدّث عن أبطال وقصص مختلفة لينتقل إلى المتلقّي ويجعله مُشاركاً ومنتجاً للنص في حيّز من الحقائق والتأويلات والخطب والحقائق.

 

حضور السينما في الفانتازيا:

في هذه المتن السردي لرواية بلاد العم لام ظهرت شخصيّة المؤلِّف كسناريست سينمائي مبدع وبما مكّنَ السبك و السرد من الإستعانة بمقاطع متضادّة ومنسجمة معاً في ثنائيّة عجيبة خيّمت في  مقاطع الرواية المئة والتي بدأت بالرقم مئتين وانتهت بالرقم تسع وتسعين.

ص5

الخلاصة:

لا يمكنني ان أستشفَّ خلاصة لهذا الإبداع الكبير سوى انّ يوسف المحسن نَجح في استقطاب المتلقّي إلى روايته وتمكّن من توجيه الانظار الى هذه المنطقة من العالم سواء السماوة/ الخضر/ اوروك وهي الغارقة بالغرائبيّة الواعية والحكمة تحت المزاج الحاد الذي يغلّفها.

بلاد العم لام  عملٌّ متكامل لا يحتاج إلى تسجيل مؤاخذات قاريء أو ناقد،  أن مَنْ يغامر بالفعل القرائي لهذا العمل يحتاج إلى ان يؤشر مواقع القوة التي تتوالد بعد كلّ قراءة في فصول الرواية وكيف تمكّن السارد من حشر هذه الحكايات في ثوانٍ أربع ، فلقد ايقظ في رأسي السؤال: هل إنَّ ولادة النصّ تعني موت المؤلف أم أن ولادة المحسن تعني ولادة النص ام الاثنين! لست أ دري، ففي هذه الرواية انزياحات كابوسيّة لم اعهدها في اعمال سابقة وتمازج أو علاقة بين زمن القصة وزمن الخطاب في دلالتها، أنّها جملة من العلاقات المتشابكة، وبين حركيّة لأزمنة مختلفة، وأنا على غير المعتاد في مقاربات نقديّة لم أقدِّم دليلاً في كلّ محطّة مررت بها خلال تصفّحي أو سماعي النص السردي، لم اذكر أرقام الصفحات ولا السطور،  فهكذا عملٌ روائي مدهش أظنّهُ حلّقَ بالجمال إلى حدٍّ بعيد،  وسوف يكون له البصمة الواضحة والمكانة في المشهد الثقافي، خاصّة وإن الروائي يوسف المحسن قدّمَ لنا مايثبت تميّزه الإبداعي سواء في حواراته الصحفيّة أو في روايته (النساي) التي قدّمَ فيها أيضاً عملاً هائلاً أستحقَّ الاعجاب،  وسرديّات (بلاد العم لام) ستشكّل علامة فارقة في المشهد الثقافي العراقي والعربي، وعلى ما فيها من بناء ادراكي واحالاتي دفع به العنوان ، إلّا أنّها بعيدة كلّ البعد عن  العم سام، وربّما تحاكي وقائع حدثت في زمن الاحتلال لبلاد ما بين النهرين.


مشاهدات 49
الكاتب نجم الجابري
أضيف 2025/10/19 - 3:02 PM
آخر تحديث 2025/10/20 - 1:38 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 71 الشهر 13084 الكلي 12152939
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير