الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
آمال وتواريخ

بواسطة azzaman

آمال وتواريخ

محمد زكي ابراهيم

 

 حينما يعود المرء بذاكرته إلى الوراء قليلاً، ويتأمل ما جرى في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي على وجه الخصوص، سيخرج بنتيجة واحدة، وهي أن جرحاً كبيراً أصاب العالم العربي، جعل ما يفكر فيه هذا الجيل شيئاً آخر، مختلفاً تمام الاختلاف عما اعتاد آباؤه التفكير فيه من قبل.

 إن أكثر ما كان يشغل بال العرب في تلك الأيام هو حلم الوحدة بين بلدانهم التي تحررت للتو. وكان الجزء القليل الذي تحقق من هذه الوحدة هو ما حدث بين سوريا ومصر عام 1958. وهي تجربة قصيرة غنية بالعبر والدروس، فقد آمنت النخبة العربية أن الوحدة الشاملة هي الحل الوحيد القادر على دحر الأعداء، واستعادة الأراضي المغتصبة، وخلق كيان قوي، ينتقل بالعرب من حال إلى حال، وبات التفكير في امبراطورية مترامية الأطراف، ذات حول وطول، يخلب لب الجميع، ويؤجج لديهم المشاعر القومية، والحماس الثوري.

  وبعد سلسلة من الانكسارات تلاشت هذه الأحلام، وغاب أولئك الذين نذروا حياتهم من أجلها، وغدت الوحدة فكرة مثالية غير قابلة للتطبيق.

 لقد جعل تعاقب الأجيال على بقعة محدودة من الأرض، من كل شعب أمة قائمة بذاتها، لا وقت لديها للتفكير في ما وراء حدودها، ولا تستطيع التنازل عن واقعها الذي آلت إليه، وليس من مصلحتها الاندماج مع أخوة افترقوا عنها منذ زمن طويل.

 وبالطبع فإن أي وحدة محتملة لا يمكن أن تنشأ بين دول ضعيفة تتحكم فيها عوامل وإرادات خارجية وإقليمية، بل أن الشرط الأهم لقيامها هو وجود كتلة متماسكة قوية، يغلب على سياستها التروي، ويهيمن على قرارتها العقل.

 لقد حل عصر التجزئة، الذي لا يريد لهذه الكيانات الصغيرة أن تأتلف مرة أخرى. بعد أن تحولت إلى أمم قائمة بذاتها، وتعين على العرب الآن أن يفكروا بوسائل أخرى، تحفظ لهم الشعور بأنهم أخوة العقيدة والمصير المشترك.

ومع ذلك فإن أحداً لا يضمن ما سيقع في المستقبل من حوادث، ولا يعلم ما تخبئه له الأيام من مفاجآت، وقد أثبتت التجارب أن الحدود الفاصلة تتهاوى عند الأزمات، ويزول سلطانها عند اللزوم، ولا تقف عائقاً أمام انتقال الأفراد واللهجات والأفكار والعادات، وهذا ما حدث مراراً بين بلدان مثل مصر وليبيا، والعراق وسوريا، وسوريا ولبنان، ولم تستطع كل قوانين الهجرة أن تمنع تدفق العمالة والسلع والعقائد والثقافات في ما بينها، وأن تحول دون التقارب والاندماج.

 إن وحدة إقليمية بين بلدين عربيين متجاورين أو أكثر، هي الخيار الأكثر واقعية في هذه المرحلة، لأنها الوحيدة القادرة على تجسيد مفهوم الوحدة العربية،  ففي زمن مضى، وبالتحديد عام 1935 أعلن شاب لبناني اسمه انطون سعادة، الدعوة إلى سوريا الكبرى، التي تمتد من الحدود العراقية الإيرانية في الشرق إلى سيناء وقبرص في الغرب، ورافق دعوته التي تحولت إلى حزب شهير، منطلقات نظرية صارمة، اقتربت من مقولات اليمين المتطرف، حتى اتهمت أخيراً بالفاشية ، وانتهت بصاحبها إلى ساحة الإعدام.

إن فكرة كهذه تستحق الدراسة والتأمل، والمراجعة والتطوير، والجرح والتعديل، لأنها تصلح أن تكون نموذجاً للعديد من الاتحادات العربية، وربما تكون هي الأولى بالتعميم على أقطار العروبة في عصرنا الحاضر، من أي دعوة وحدوية أخرى. لأنها أقل تكلفة، وأيسر منالاً.

 إن اندماج كيانات عربية متجاورة، ستكون له مردودات كبيرة على وضع العرب في المنطقة، وستمنحهم التفوق الذي يطمحون إليه في صراعهم الطويل مع الغرب، وسيحسب الخصوم لهم ألف حساب قبل أن يفكروا بإدامة الصراع معهم، أو إدخال كيانات مصطنعة بين ظهرانيهم.


مشاهدات 15
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2025/10/18 - 2:36 PM
آخر تحديث 2025/10/19 - 5:47 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 190 الشهر 12473 الكلي 12152328
الوقت الآن
الأحد 2025/10/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير