دراسة وثائقية مختصرة من ارشيف حزب البعث.. ماذا قال زعيم الحوزة لرئيس المخابرات ؟

عادل الياسري

شهد العراق منذ منتصف السبعينيات صدامًا متدرجًا بين حزب البعث الحاكم والممارسات الدينية، خاصة في ما يتعلق بالمواكب الحسينية. الحزب نظر إلى هذه المواكب باعتبارها ساحة محتملة لاستغلال سياسي، بينما رأى المجتمع الشيعي فيها رمزًا دينيًا واجتماعيًا متجذرًا. ومن هذه اللحظة بدأت مواجهة طويلة بين السلطة والحوزة العلمية في النجف.

انتفاضة صفر 1977

في عام 1976 شكّل حزب البعث لجنة برئاسة طه ياسين رمضان لتنظيم شهر محرم وزيارة الأربعين، وأصدرت قرارًا من 16 فقرة تضمّن منع المواكب. جاء الرد في صفر 1977، عندما خرجت مواكب النجف متحدية قرار السلطة، ودوّت الهتافات المناوئة للنظام مثل: «جسّام كِل لصدام شعب النجف ميريدك». انتهت المواجهة في خان النص قرب كربلاء، لتعرف لاحقًا بـ انتفاضة صفر، وكانت بداية التوتر المفتوح بين الدولة والشارع الديني.

موقف صدامي

لم يصدر عن السيد أبو القاسم الخوئي موقف صدامي مباشر مع السلطة بعد المنع، في حين أرسل الخميني –المقيم في النجف آنذاك– برقية استنكار إلى الرئيس أحمد حسن البكر، في سابقة غير معهودة من النجف تجاه الحكومة العراقية. ومنذ تلك اللحظة بدأ النظام ينظر إلى المرجعية من زاوية أمنية بحتة، محاولًا ضبطها عبر المراقبة واللجان.

ضغوط الحرب العراقية – الإيرانية

مع اندلاع الحرب (1980–1988) ازداد الضغط على الخوئي. الإيرانيون أرادوا منه موقفًا فقهيًا داعمًا لهم، فيما كانت المخابرات العراقية تطالبه ببيان صريح ضد إيران. لكنه لزم الصمت، ما جعل الطرفين ينظران إليه بريبة. بل إن الإيرانيين حاولوا النيل من مكانته بنشر تشكيكات حول نسبه عبر أحد النسابة.

البعث والحوزة: محاولات التعريب

في نوفمبر 1984 قررت القيادة القطرية برئاسة عزة إبراهيم تشكيل لجنة لدراسة أوضاع طلبة العلوم الدينية في النجف. وتبع ذلك قرار بتسفير الطلاب غير العراقيين وتعريب الحوزة. تم إبلاغ الخوئي عبر السيد نصر الله المستنبط بأن غير العرب يقتصر تعليمهم على تعلم اللغة العربية. الهدف كان واضحًا: تقليص النفوذ الإيراني في الحوزة.

إحدى الوثائق المخابرات ملف ابو حسين (قبل 1979) أشارت إلى أن الخوئي كان يرى في السيد يوسف الحكيم المرجع من بعده، لكن المخابرات رشّحت عبد الله السبزواري، لضعف قاعدته الشعبية، في محاولة لضبط خلافة المرجعية.

نقاشات القيادة 1987–1988

في 1987 ناقش المجلس الوطني دراسة موسعة عن الحوزة، بحضور فاضل البراك (مدير المخابرات) وعبد الرحمن الدوري (مدير الأمن). كان الهدف المعلن تسفير المرجعية.

•عبد الحسن راهي الفرعون ( المشخاب ) (مسؤول تنظيم الفرات الأوسط لحزب البعث) اعتبر أن الحوزة “أداة فارسية” وأنه يجب ضمان أن لا يستلمها إلا عربي.

ك•كسعدون شاكر (وزير الداخلية) رأى أن رجل الدين إذا أخذ أمواله من الدولة فلن يحترمه أحد، داعيًا إلى دعم رجال دين موالين للنظام.

ك•كالنقاش انتهى إلى محاولة إلزام الخوئي بموقف واضح من الحرب، بل طُرحت فكرة تسفيره، لكن لم تُنفذ.

شهادة فاضل البراك

في هذه الجلسة برز فاضل البراك، الذي كان الأكثر اطلاعًا على شؤون الحوزة. قال إنه التقى الخوئي الذي صرّح له بأن:

“الفلسفة الجعفرية هي أن تخالف أهل السنة، فأي شيء تجدونه خالفوهم فيه تنالون الأجر.”

هذا القول –إذا صح– يعكس إما طائفية صريحة أو محاولة من الخوئي لمخاطبة رجل المخابرات بلسان حادّ. لكنه يبقى من أكثر النقاط إثارة للجدل في علاقة المرجعية بالدولة.

قرار صدام حسين

بعد نقاشات مطوّلة، أصدر صدام حسين قرارًا في 9 آذار 1988 بعدم المساس بالخوئي وعدم التعرض للحوزة، لأن إبعاده سيعني انتقال المرجعية من العراق إلى إيران، وهو ما لم يكن النظام راغبًا فيه.

في الانتفاضة الشعبانية أصدر الخوئي فتوى بـ “الحفاظ على بيضة الإسلام”، أي الجهاد، لكنه تراجع عنها إعلاميًا تحت ضغط السلطة. وجمعت المرجعية في “جامعة النجف الدينية” حيث تنافس بعضهم في إعلان الولاء للنظام. لاحقًا، في 2002، أصدر السيد محمد سعيد الحكيم الطباطبائي فتوى ضد العدوان الأمريكي، قُرئت من ضريح الإمام علي، مما يعكس استمرار توظيف الفتاوى سياسيًا.

الخلاصة

تُظهر الوثائق أن علاقة البعث بالمرجعية لم تكن مواجهة مباشرة فقط، بل كانت محاولة مستمرة لـ “إعادة تشكيل” الحوزة بما يخدم أهداف الحزب. أما الخوئي فظل صامتًا، لا مع إيران ولا مع العراق، مما جعله عرضة لضغوط مزدوجة. تبقى شهادة فاضل البراك عن كلام الخوئي واحدة من أبرز الإشارات التي تكشف التوتر بين الفقه السياسي الشيعي ورؤية الدولة البعثية.