الذكاء الاصطناعي وتفسير الدستور
نوري جاسم
الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تطور تقني يخص العلوم والهندسة، بل أصبح يفرض حضوره في ميادين الحياة والفكر والقانون. ففي الوقت الذي كان فيه تفسير الدستور حكراً على العقل البشري، بدأت تلوح في الأفق أسئلة غير مألوفة: هل يمكن لخوارزمية أن تفكّ رموز النصوص الدستورية؟ وهل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يقدّم قراءة محايدة، أو حتى أكثر دقة من القاضي الدستوري؟ هذه الإشكالية الجديدة، من حيث الإمكان القانوني والحدود الدستورية، ومحاولة أن نتخيل مستقبل العلاقة بين التكنولوجيا والدساتير في ظل عالم لا يتوقف عن التغير.
أولاً: التفسير الدستوري وموقعه في النظام القانوني
الدستور هو الوثيقة الأسمى في البناء القانوني للدولة، وتفسيره يعني – من الناحية الفعلية – إنتاج المعنى السياسي والقانوني الذي يُبنى عليه باقي النظام. ولهذا فإن مهمة التفسير كانت دائماً موضع جدل، بين من يراها محصورة بالمحاكم الدستورية، وبين من يفتح المجال لاجتهادات الفقه. والتفسير هنا لا يعني فقط الفهم اللغوي للنص، بل يتعداه إلى تحليل السياق، وقراءة الإرادة التأسيسية، وربما حتى تقدير المتغيرات الاجتماعية والسياسية. من هنا، كانت هذه المهمة ذات طابع إنساني – ثقافي عميق، لا يمكن فصلها عن الواقع التاريخي للأمة.
ثانياً: الذكاء الاصطناعي في الحقل القانوني :
في السنوات الأخيرة، بدأت بعض الدول باستخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل الأحكام، وتقديم المشورة القانونية، بل وحتى إصدار قرارات قضائية في بعض الدعاوى البسيطة. الذكاء الاصطناعي يستطيع اليوم قراءة آلاف الصفحات في ثوانٍ، ورصد تناقضات النصوص، وتحليل السوابق القضائية بصورة لم تكن ممكنة سابقاً. ولكن، هل يمكن لهذه القدرات أن تمتد إلى التفسير الدستوري، وهو أكثر مستويات القانون تعقيداً؟
ثالثاً: إمكانيات AI في تفسير الدساتير :
1. تحليل النصوص: يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحلل النصوص الدستورية من حيث البناء اللغوي والارتباطات المفاهيمية بينها، ويقارنها بنصوص قانونية أدنى، لرصد التناسق أو التعارض.
2. استدعاء السوابق القضائية: بقدرته على الوصول إلى آلاف الأحكام بسرعة، يمكنه تقديم إطار مرجعي شامل لاجتهادات سابقة، مما يوفّر أداة مساعدة قوية للمحاكم الدستورية.
3. الحياد: قد يكون الذكاء الاصطناعي، من الناحية التقنية، محايدًا وغير متأثر بأيديولوجيا أو ضغوط سياسية.
رابعاً: حدود الذكاء الاصطناعي في التفسير الدستوري
1. غياب الفهم الإنساني: لا يملك الذكاء الاصطناعي وعياً ثقافياً أو إدراكاً سياقياً حقيقياً، وهو ما يجعل قراءته للنصوص محدودة بقيود البرمجة.
2. المسؤولية القانونية: من يضمن مشروعية التفسير الذي تقدّمه الخوارزميات؟ ومن يُحاسَب عند الخطأ؟ القانون لا يعرف "مسؤولية الآلة"، بل مسؤولية الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين.
3. تهديد مبدأ الفصل بين السلطات: إذا أوكلنا التفسير إلى أدوات غير خاضعة لرقابة شعبية أو مؤسسية، فإن ذلك قد يهدد توازن النظام الدستوري برمّته.
خامساً: رؤى مستقبلية :
من الممكن تخيّل نماذج مستقبلية هجينة، تُستخدم فيها أدوات الذكاء الاصطناعي كمساعدة للمفسّرين الدستوريين، دون أن تحل محلّهم. يمكن للمحاكم أن تعتمد خوارزميات تحليلية ترشدها في رصد التناقضات، أو تقييم التعديلات الدستورية من حيث الاتساق البنيوي، لكن القرار النهائي يجب أن يبقى بيد الإنسان. بل قد تنشأ مستقبلاً حاجة إلى "مدونات أخلاقية" لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التفسير، تُشرف عليها هيئات دستورية مستقلة، تضمن عدم انحراف الأدوات الرقمية عن الأهداف الديمقراطية. والذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن العقل القانوني، لكنه قد يصبح أداة لا غنى عنها في المستقبل القريب. والمهم أن نحافظ على أنسنة التفسير، وأن لا نسمح للتكنولوجيا بأن تتجاوز حدودها. فالدستور ليس مجرد نص، بل هو تعبير عن روح الأمة، وهذه الروح لا تُختزل في شيفرة أو معادلة خوارزمية .