النسيان الدستوري حين يُهمَل النص وتبقى العُقد
نوري جاسم
في الدساتير، كما في التاريخ، ليس كل ما يُكتب يُنفَّذ. هناك مواد تُولد ميتة، وأخرى تُصاب بتقادم سياسي، ومجموعة تُترك معلّقة في فضاء نوايا مشرّعيها. لكن أخطر تلك الحالات هي حين يُصاب النص الدستوري بما يمكن تسميته بـ"النسيان الدستوري"؛ حين يُنسى النص عمداً، لا جهلاً به، ولا لسقوطه، بل لأنه لا يخدم مصالح اللحظة أو لا يتناسب مع مزاج السلطة.
ما هو النسيان الدستوري؟
هو تلك الحالة التي تبقى فيها المادة الدستورية قائمة من حيث الشكل، لكنها معطّلة من حيث المضمون. لا تُلغى، ولا تُعدّل، ولا تُهاجم، لكنها ببساطة لا تُنفّذ. وكأنها تُركت عمدًا لتُنسى، لا بفعل الزمن وحده، بل بفعل فاعلين. وهذا النوع من التهميش الدستوري لا يحدث في الخفاء، بل غالبًا ما يتم بمباركة مؤسسات الدولة نفسها. البرلمان لا يُشرّع على ضوئها، الحكومة لا تخطط وفقها، والقضاء لا يراجع سلطتها. ويبقى النص، في الكتب والمناهج، وفي خطابات اليمين الدستوري، لكنه لا يصل إلى الناس، ولا يتحول إلى ضمانة قانونية.
أمثلة متكررة.. وصمتٌ رسمي :
انظر إلى كثير من الدساتير العربية، ومنها الدستور العراقي لعام 2005. تجد في الباب الثاني مثلاً، مواد تضمن الحريات العامة، حرية التعبير، الحق في السكن، التعليم، الصحة، الضمان الاجتماعي، والمساواة الكاملة أمام القانون. لكن الواقع يقول شيئًا مختلفًا تمامًا.
وتوجد مادة واضحة تنص على أن "الثروات النفطية والغازية تعود ملكيتها إلى الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات". ورغم مرور أكثر من 18 عامًا على إقرار الدستور، تزال الخلافات قائمة حول توزيع الإيرادات، ولا تُدار وفق نص دستوري ثابت، بل وفق تسويات وقتية، وصفقات سياسية، وموازنات تفرضها اللحظة، لا القانون.
أين النص؟
إنه موجود، محفوظ، يُدرَّس، يُستشهد به أحيانًا في خطب رسمية. لكنه غائب حين تتوزع الأموال، وحين تُدار الموارد، وحين تُصاغ الاتفاقات.
حين يتحوّل الدستور إلى وثيقة نوايا :
النسيان الدستوري لا يعني فقط تهميش الحقوق، بل يعني أن الدولة بدأت تفقد أحد أهم مقوماتها: التعاقد الاجتماعي. فالدستور ليس كتاب قواعد فقط، بل هو وعدٌ متبادل بين السلطة والشعب. وحين تَخلف السلطة وعودها، ينهار ذلك العقد غير المكتوب الذي يقول للمواطن: "أنت في دولة قانون". الخطورة لا تقف عند حدّ الانتهاك، بل تتجاوزه إلى تكريس اللامبالاة. فالمواطن الذي يرى النصوص لا تُطبَّق، سيتوقف عن المطالبة بها. وحين يتآلف الشعب مع غياب الدستور، تصبح خروقاته أمرًا اعتياديًا، لا يُستغرب ولا يُرفض.
النسيان السياسي أداة حكم :
الأنظمة الحاكمة تدرك أن هناك مواد في الدستور تُعطّل نفوذها، أو تُحرجها أمام الرأي العام، أو تمنح خصومها أدوات للمساءلة. لذلك تُركّز على تطبيق ما يعزز سلطتها، وتتجاهل ما يحدّ منها. وإذا طُرحت أسئلة، تُرفع لافتات مكررة: "نحن في مرحلة انتقالية"، "الظروف لا تسمح"، "الأمن أولًا"، "الوعي الشعبي لم يكتمل بعد". لكن هذه الحجج، مهما تكررت، لا تلغي الحقيقة: أن هناك مواد دستورية تُنسى بشكل متعمدً، لأنها تعني شيئًا أكبر من مجرد بند قانوني. تعني توزيعًا عادلًا، استقلالًا حقيقيًا، مشاركة فاعلة، وقضاءً غير مسيّس.
هل من مخرج؟
المعركة ضد النسيان الدستوري ليست معركة فقهية، بل سياسية وشعبية. تبدأ بالاعتراف الصريح بوجود هذه الظاهرة، ثم بالضغط المتواصل على السلطات لتطبيق النصوص كما هي، لا كما تُراد. ولا يجوز أن يُعامل الدستور ككتيّب شعارات، يُفتَح في المناسبات الوطنية ويُغلَق في اجتماعات القرار. بل يجب أن يتحول إلى مرجع فعلي، نافذ، حاكم، فوق الجميع. والمطلوب اليوم ليس تعديلات جديدة فقط، بل إحياء النصوص المهملة، وإعادة الروح إلى مواد صارت كأنها حبر بلا أثر. فالدستور الذي لا يُطبَّق، أخطر من غيابه؛ لأنه يخلق وهمًا بالقانون، بينما الواقع يتحدث بلغة أخرى.
خاتمة :
بين سطور الدساتير، هناك أحلام شعوب، وتضحيات أجيال، وصياغات دقيقة من رجال قانون وضعوها بعناية. لا يجوز أن نُهملها أو نُعيد صياغتها لتُناسب واقعًا مأزومًا، بل يجب أن نُغيّر الواقع ليُحترم الدستور. وإذا كان التاريخ يُكتَب بالنصوص، فإن الحاضر يُصنَع بتطبيقها. وإلا، فسنبقى ندور في حلقة دستورية مفرغة: نكتب كثيرًا، نُطبق قليلًا، ثم ننسى... ثم نبدأ من جديد. واخيرا اقول " ان الدساتير لا تُقاس بطول فصولها، بل بمدى وفاء الدولة لها حين لا يراها أحد."
اللهم صل على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .