موت الطائي كشف السر وأعلن المستور
شوقي كريم حسن
لم يكن موت إياد الطائي حدثًا عابرًا في سجلّ الفن العراقي، بل كان صرخة مدوّية خرجت من جوف نعشه الصامت، صفعةً على وجه دولةٍ لا تعرف من الثقافة سوى شعاراتها، ولا تكرم مبدعيها إلا حين يتحوّلون إلى صورة في إطار أسود.أيّ مشهدٍ أبكى اليوم أكثر من فنانٍ عظيمٍ، قدّم عمره على خشبات المسرح وشاشات الوطن، يُشيَّع في سيارة (بيك أب) رخيصة لا تليق حتى ببضاعة سوق، ومن حوله نفرٌ لا يتجاوز عددهم أصابع اليد؟ أين الوزارات التي كانت تملأ الدنيا صراخًا عن دعم الثقافة والفن؟ أين النقابات التي تتباهى بعضوية الفنانين حين يكونون أحياءً لتتاجر بأسمائهم، ثمّ تتوارى حين يصبحون جثثًا؟إياد الطائي – كما كثيرين من قبله – لم يمت موتًا طبيعيًا، بل اغتاله الإهمال الطويل، قتله التجاهل، سحقته دولةٌ ترى في الفنان (كماليات) لا ضرورة لوجودها. عاش وحيدًا لأن المسرح الذي أحبّه أُغلق في وجهه، ومات غريبًا لأن الشوارع التي ملأها فرحًا لم تتّسع لجنازته.
إن موت الطائي ليس مأساة فردٍ، بل إعلان إفلاسٍ أخلاقيّ كامل. هو المرآة التي تكشف وجوهنا جميعًا: وزراء الثقافة الذين لا يعرفون من الفن إلا صورهم في المهرجانات، المسؤولين الذين يذرفون دموع التماسيح في التأبين، الجمهور الذي يصفّق ثم ينسى.ألم يحن الوقت لأن نسأل أنفسنا: ما قيمة الفن في بلدٍ يُشيَّع فيه مبدعٌ بسيارة (حمل)؟ ما قيمة الثقافة في وطنٍ يدفن رموزه كما تُدفن الأشياء القديمة؟
لقد كشف موت إياد الطائي السر وأعلن المستور: نحن لا نحبّ مبدعينا، لا نحترمهم، ولا نحفظ لهم مكانتهم. نستهلكهم كما نستهلك كلّ شيءٍ في هذا البلد المنهك، ثم نرميهم عند النهاية في صندوقٍ صغيرٍ بلا تكريم.
هكذا نعامل من صنع ذاكرتنا، من صاغ وجداننا، من علّمنا الحلم… هكذا نمشي خلف نعش الفن العراقي، بوجوهٍ خجِلة وصمتٍ ثقيل.
وما لم نغيّر هذا الواقع، فسيأتي الدور على من بقي… ليموت كما مات إياد الطائي: عظيمًا في حياته، غريبًا في موته.وزارة الثقافة التي يُفترض أن تكون الحاضنة الأولى للفنّان، أثبتت أنها مقبرة للمواهب الحيّة. ميزانياتها تُهدر في مهرجانات التصوير والاستعراض، وموظفوها لا يعرفون أسماء روّاد المسرح والدراما إلا عندما يقرأونها في نعوة. نقابة الفنانين التي تتغنّى بـ”الدفاع عن حقوق أعضائها” لم تدافع إلا عن مكاتبها وامتيازاتها، وتركت من صنع مجد الفن العراقي يواجه الجوع والمرض والنسيان وحده.والدولة – بأجهزتها كافة – تعامل المبدعين كما لو كانوا عالة على الموازنة، بينما لا تتردد في إنفاق الملايين على الولائم السياسية والمؤتمرات الفارغة. في الوقت الذي يُشيَّع فيه فنانٌ بمسافةٍ من العار والخذلان، تُصفّ السيارات الفارهة أمام قصور المسؤولين الذين لا يعرفون شيئًا عن قيمة الفن، ولا عن تلك الأرواح التي صنعت صورة العراق في عيون العالم.لقد قال نعش إياد الطائي ما لم يقله أحد: هذه ليست جنازة رجل واحد، بل جنازة ثقافة كاملة. موت الطائي ليس نهاية فنان، بل فضيحة وطنٍ خذل أبناءه المبدعين واحدًا تلو الآخر، حتى صار تشييعهم بسيارة (بكم) مشهدًا عاديًا لا يثير غضب أحد.فيا وزارة الثقافة، ويا نقابة الفنانين، ويا حكومة هذا البلد: أنتم المسؤولون. أنتم من قتله بالإهمال، أنتم من شيّعه في الخفاء، وأنتم من سيتحمّل وزر التاريخ حين يُكتب أن العراق كان يومًا ما بلد الشعر والمسرح والدراما… ثم أصبح بلدًا يدفن فنانًا في صندوق مهمل، ولا يبكيه أحد.!