الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
التحليل الأدبي لرحلة فوق الغيوم تحت الغيوم للرحالة الكاتب طه جزاع


التحليل الأدبي لرحلة "فوق الغيوم تحت الغيوم" للرحالة الكاتب طه جزاع

حمدي العطار

 

يُعد كتاب "فوق الغيوم تحت الغيوم" لطه جزاع تجربة ثرية في أدب الرحلات، يقدم من خلالها الكاتب نموذجًا لما يمكن أن نطلق عليه "رحلة الكاتب المثقف". فالكتاب ليس مجرد سرد لمشاهدات ومواقف سياحية، بل هو تفاعل ثقافي وفكري عميق مع الأمكنة والتاريخ والناس، ما يجعل هذه الرحلة متميزة عن الرحلات التقليدية.

*الأسلوب واللغة

طه جزاع كاتب يمتلك أسلوبًا أدبيًا يجمع بين البساطة والعمق، فهو يدمج السرد الوصفي بالتحليل الفلسفي والثقافي. لغته شاعرية أحيانًا، ومباشرة حينًا آخر، مما يجعل القارئ يعيش الرحلة كأنه يرافق الكاتب في تنقلاته. كذلك، اعتمد على التناص الأدبي والحضاري، حيث وظف مقولات ابن بطوطة، مما يضفي على النص بعدًا تراثيًا يستدعي المقارنة بين الأمس واليوم، وبين ماضي المدن وحاضرها.

الموضوعات والرؤى

يطرح الكاتب رؤى فلسفية حول المدن، فهو لا ينظر إليها كأماكن مادية فقط، بل يتعامل معها ككائنات حية تنبض بالفرح أو الحزن، تعيش أو تموت، كما ورد في قوله:

المدن ليست مجرد أحجار صماء وقلاع وأسوار... بل أشبه بالكائن الحي في دورة حياة.”

وهذا التأمل الوجودي يجعل من رحلته رحلة تأمل في مصائر الشعوب والحضارات، وليس فقط زيارة معالم سياحية.

*الرمزية والدلالات

استخدم الكاتب الرموز لشرح التحولات التاريخية والثقافية، كما في عنوان "صراع الطربوش والقبعة"، حيث يوظف الصراع على اللباس للدلالة على صراع أعمق بين الهوية والتغريب، بين الماضي والحاضر، وبين ثقافة الشرق وتغريب الغرب.

كما تتجلى الرمزية في وصفه لزيارة قونية، التي مثلت بالنسبة له حجًا روحانيًا إلى مرقد جلال الدين الرومي، حيث يلتقي التصوف بالمحبة الكونية، ويستعيد شغفه بالرواية الصوفية "قواعد العشق الأربعون".

*الشخصيات والأماكن

طه جزاع لا يصف المدن فحسب، بل يمنحها شخصية وروحًا، فإسطنبول ليست مجرد مدينة، بل "عاصمة العالم"، كما قال نابليون، وكأنها تمثل قلب الحضارات المتصارعة والمتصالحة معًا.

أما قونية فهي "كعبة العشاق"، حيث يستحضر روح جلال الدين الرومي، وطرابزون هي "جنة الله على الأرض"، بجمال طبيعتها وثراء تاريخها.

البعد التاريخي والسياسي

الكتاب يعرض تحولات تركيا السياسية والاجتماعية، من إرث الدولة العثمانية إلى تركيا الحديثة بقيادة أتاتورك. يوضح الكاتب كيف أثرت تلك التحولات على الهوية، من خلال الأمثلة الحية مثل المتاحف، الأزياء، اللغة، والعمران، كما في زيارته لضريح أتاتورك أو سرده لتاريخ المساجد الكبرى في إسطنبول وبورصة.

*التفاعل الإنساني

من خلال لقاءاته بالناس، سواء في قهوة بيارلوتي أو أثناء زيارته للأسواق الشعبية، يقدم الكاتب صورة عن علاقته بالناس، وخاصة إعجابه برعاية كبار السن واحترامهم في تركيا. إنه يرصد تفاصيل الحياة اليومية، مما يضفي على النص دفئًا إنسانيًا وواقعية محببة.

*البعد الفني والجمالي

الكاتب يولي عناية خاصة للجانب الفني، سواء في وصف العمارة العثمانية، أو الحديث عن عبقرية المعماري سنان، أو حتى أثناء وصف الأسواق والموانئ، حيث يمزج بين السرد الفني والوصف الدقيق، ليمنح القارئ تجربة بصرية شبه متكاملة.

 

*خلاصة التحليل

رحلة "فوق الغيوم تحت الغيوم" ليست مجرد توثيق لرحلة إلى تركيا، بل هي تأمل فلسفي وثقافي وإنساني في المدن والناس، وفي التاريخ والهوية. طه جزاع كاتب مثقف استطاع أن يخلق نصًا يمزج بين الأدب والفكر والفلسفة، ويمنح أدب الرحلات بعدًا معاصرًا يتجاوز حدود الجغرافيا إلى آفاق أوسع.


مشاهدات 459
الكاتب حمدي العطار
أضيف 2025/03/25 - 3:46 PM
آخر تحديث 2025/03/29 - 3:50 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 526 الشهر 18125 الكلي 10579074
الوقت الآن
السبت 2025/3/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير