الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
النقد وما بعد النقد: إعادة قراءة في مستقبل البحث الأدبي


النقد وما بعد النقد: إعادة قراءة في مستقبل البحث الأدبي

 عادل الثامري

 

شهدت الدراسات الأدبية في العقدين الاخيرين شعورًا متزايدًا بعدم الرضا تجاه النقد. فبعد أن كان يُعدّ ذروة الجدية الفكرية والانخراط السياسي، بات النقد اليوم موضوعًا للتعب، والشك، بل وحتى الاستهجان. ويجسّد العدد الخاص من مجلة English Language Notes والمعنون بـ بعد النقد؟"  (2013) هذا المزاج الانتقالي في الحقل الأكاديمي ويضعه موضع مساءلة. ومع ذلك، كما يرى محررو هذا العدد، فإن مسألة أن نكون "ما بعد النقد" لا تقتصر على رفض منهج أو الدفاع عنه؛ بل تعبّر عن تردد أعمق—إذ لا يمكن للبحث الأدبي أن يستمر عبر النفي المحض للنقد، ولا أن يعود إليه كما لو لم يتغير شيء. تهدف هذه المقالة إلى الدفاع عن موقف مزدوج: موقف ينتقد هيمنة النقد من جهة، ويشكّك من جهة أخرى في البدائل الناشئة التي تسعى إلى إحلاله. وهي بذلك تدعو إلى التزام متجدد بالتوترات واللايقين الملازمين للتأويل، لا بوصفه حنينًا إلى ماضٍ نقدي، بل كوسيلة لمقاومة الإغلاق المبكر لإمكانات الفكر النقدي.

 كتب (روس كاسترونوفو وديفيد غليمب) في مقدمة العدد "يسعى المسهمون في هذا العدد، عمومًا، إلى الاستفادة من الاهتمام الواسع بإعادة التفكير في النقد أو التأمل فيه، من أجل الانخراط من جديد في طيف واسع من الممارسات والمفاهيم والتوجهات التي جرى تصنيفها مجتمعة تحت مظلة "النقد". ولا أحد ممّن سيأتي ذكرهم في الصفحات التالية هو "ما بعد نقدي" بمعنى اعتبار النقد قد أصبح موضة قديمة، أو مستنفدا، أو شيئًا ينبغي تجاوزه أو التخلي عنه. بل إن عددًا من المسهمين يمكن اعتبارهم مدافعين أقوياء عن النقد، وذلك ضمن عملية إعادة التفكير أو إعادة توجيه الأنشطة المرتبطة به. لقد ظهر مدافعون شرسون عن النقد في أماكن أخرى، سعوا إلى تبرير هذه الممارسة الفكرية بأسلوب حاد، كما لو أن أي محاولة لتوسيع أو تحويل هذا الحقل، أو أي جهد لإعادة التفكير فيه أو تطوير بدائل له، يُعدّ هجومًا شخصيًا. وهذا ليس هو الحال هنا. فنحن نرى أن أولئك الذين يظلون ملتزمين بالنقد في هذا العدد إنما يسعون إلى الدفاع عنه من خلال إعادة تخيّله وإعادة توجيهه. وهم يفعلون ذلك إما من خلال إعادة التفكير في بعض الفئات أو الموضوعات المركزية التي نظّمت البحث النقدي في السنوات الأخيرة؛ أو من خلال زعزعة وإعادة صياغة التوجهات المهنية التي تمنح النشاط النقدي شرعيته؛ أو من خلال إعادة توجيه الأهداف التي تبرّر النقد؛ أو من خلال توسيع الأفق الذي يوجّه ويحدّ من النشاط البحثي."

وفي هذا السياق النقدي المتوتر، يقدّم هذا العدد من المجلة محاولة لتقييم موقع النقد باعتباره ممارسة مركزية في حقل الدراسات الأدبية، ومساءلة التحديات التي بدأت تتشكل في وجه هيمنته بوصفه النمط السائد في مقاربة النصوص وتبرير جدوى ما نقوم به في هذا الحقل. يستجيب هذا العدد إلى مجموعة واسعة من التحولات الفكرية التي تشير إلى اهتمام متزايد بتجاوز النقد، أو إعادة تنظيم الحقل الأدبي بمعزل عنه، أو إعادة موضعته نظريًا، بل وحتى مراجعة الابستمولوجيا التنويرية التي تأسس عليها، أو فتح المجال أمام بدائل متعددة لممارسة البحث الأدبي وتنظيمه.

وتشمل هذه التحولات عددًا من الأجندات البحثية التي ترفض النقد أو تعيد التفكير فيه، بشكل صريح أو ضمني، مثل: أنماط القراءة التصالحية reparative reading( انا استخدم هذا المصطلح بدلا من مصطلح القراءة الترميمية) التي اقترحتها إيف سِدغويك، والواقعية التأملية وأنطولوجيا الأشياء (كما لدى برونو لاتور، وكوينتين ميلاسو ، وهارمان)، والمادية الحيوية لدى جين بينيت، والسوسيولوجيا التأملية للتبرير والنقد (ثيفينو وبولتانسكي)، فضلا عن إحياء الظاهراتية ودراسات الأثر والانفعال (كما عند سارة أحمد وكاثلين ستيوارت وغيرهما). كما يمكن الإشارة إلى بروز موضوعات جديدة في الحقل، مثل الإنسانيات الرقمية، أو تجدد الاهتمام بأشكال أقدم من الدراسات مثل تاريخ الكتاب، التي لا تنبني بالضرورة على منطق نقدي أو لا تجعل من النقد نقطة ارتكاز مفاهيمية لها.

انطلاقًا من هذه التطورات المتباينة، هناك سؤالًا محوريًا: هل استنفد النقد طاقته بالفعل، كما زعم برونو لاتور؟ ويهدف عبر هذا السؤال إلى تقصّي التحولات التي طرأت على الطريقة التي يفهم بها الأكاديميون المعاصرون أدوارهم، وكيف يصوغون مقارباتهم، ويُجرون بحوثهم، ويبررون مشروعية نشاطهم العلمي داخل حقل الإنسانيات.

ولا يخلو الشعور بالإحباط من النقد من مبرر. فـالممارسات النقدية التي وعدت يومًا بكشف البُنى السلطوية، وتفكيك الأيديولوجيات السائدة، وتحرير النصوص من القراءة الساذجة، قد تصلبت الآن إلى طقوس أكاديمية متكررة. وقد عبّر كثير من الباحثين عن استيائهم من الحركات المتوقعة للنقد—مثل التركيز على الكشف، والشك، والنفي—وكأن مهمة الناقد لا تتعدى فضح ما عجز الآخرون عن رؤيته. وقد أدى هذا الإحباط إلى ظهور مجموعة من البدائل المنهجية التي تدّعي تقديم علاقة أكثر إيجابية أو عاطفية أو وصفية بالنصوص. ومن بين هذه البدائل نذكر: القراءة السطحية، والقراءة التصالحية، والقراءة الوصفية، الخ.

ورغم ما تحمله هذه المشاريع من تدخلات مهمة، فإن ما يجمعها—وهو الميل إلى "الشعور الجيد" تجاه النصوص—يهدد بإزاحة التوتر البنّاء الذي ميّز النقد في أفضل تجلياته. إن الرغبة في الهروب من سلبية النقد المزعومة تؤدي غالبًا إلى ما يسميه محررو العدد تحوّلًا تعويضيًا—حركة تهدف، لا إلى إعادة التفكير في التأويل الأدبي، بل إلى استعادة مصداقية الناقد المهنية. ويرون أن هذا التحول يعكس أزمة أوسع في الحقول الإنسانية، حيث أصبحت الممارسات التأويلية مشروطة بهاجس الشرعية والجدوى والبقاء المؤسسي. وبدلاً من مواجهة هذه الأزمة مباشرة، تسعى العديد من المناهج "ما بعد النقدية" إلى عزاء شكلي في أنماط عاطفية أو وصفية تتجاوز الصراع التأويلي الجوهري في الإنسانيات.

تقدم الكاتبة روبين ويغمان في كتابها دروس في الموضوع (Object Lessons) تحليلاً عميقًا لهذا الوضع، مركزةً على ما تسميه بـ"معارف الهوية"، أي تلك الحقول المعرفية التي تشكلت حول الهويات العرقية والجندرية والجنسية وغيرها. وتجادل ويغمان بأن النقد يشغل موقعًا مهيمنًا في إعادة إنتاج هذه المعارف اليسارية التوجه، وبالتالي فهو ليس خارج التخصص، بل في لبه. وتنتقد الكاتبة ما تسميه بـ "القراءة الارتيابية" (paranoid reading) كما وصفتها إيف سيدغويك، وهي تلك الممارسة التي تُعلّق قيمتها الأخلاقية والمعرفية على افتضاح المعاني الخفية للنصوص، ضمن علاقة تُكرّس امتياز الناقد بوصفه من يكشف للآخرين "الحقيقة" الكامنة.

وترى ويغمان أن هذا النوع من النقد يُمارس شكلاً من أشكال الهيمنة السياسية في حقول معرفية كثيرًا ما تُقدّم نفسها بوصفها مناهضة للتخصص الأكاديمي والمؤسسية والنخبوية على حدّ سواء. فالناقد هنا لا يسعى إلى فهم الحقل بقدر ما يعمل على تقطيع الواقع إلى وحدات قابلة للإدارة نسميها "مواضيع للدراسة"، وهي عملية تنطوي، كما تقول، على قدر من العنف، كما أن نتائجها المصطنعة غالبًا ما تخلق فائضًا من المعنى يدفع الناقد إلى مضاعفة سعيه نحو السيطرة. بهذه الطريقة، يصبح النقد آلية ذاتية التغذية، تستمر إلى أن تنهار قدرتها على العمل. وحينئذ، يُطرح السؤال الجوهري: ما هي الطرق النقدية التي تصبح ممكنة أو متخيلة عندما يتخلى المرء عن التمسك بشكل معين من أشكال السيادة النقدية؟

لكن من المهم التنويه إلى أن التحول عن النقد لا يسير في اتجاه واحد. تشير روبين ويغمان إلى أن ما نشهده من "اختراعات" لمدارس قرائية جديدة ليس فقط استجابةً لاستنفاد منهج النقد، بل هو تعبير عن رهانات أوسع تتعلق بمصير الإنسانيات نفسها، بما في ذلك سياساتها وأدوارها. فبالنسبة لبعض الباحثين، مثل ريتا فِلسكي، وستيفن بيست، وشارون ماركوس، يمثل الابتعاد عن النقد محاولة للتخلص من مطلب طالما فُرض على الناقد الأكاديمي: أن يبرر عمله النقدي عبر الادعاء بفعالية سياسية ما. هذه الأسماء تدفع باتجاه مراجعة شاملة للبنية المهنية التي تعلّم فيها الأكاديميون كيف يقرؤون ويكتبون، بنيةٍ شكّلتها التقاليد الأجناسية للنقد نفسه.

ورغم اختلاف مشاريع هؤلاء الباحثين، فإن ما يجمعهم هو نوع من إعادة تنظيم الدراسات الأدبية لا كرفض للنظرية أو إنكار لها، بل كتوجه نحو ما هو أدبي بالمعنى الدقيق للكلمة—أي نحو نقد يبرر سلطته من داخل اللغة الأدبية ذاتها، لا من خارجها أو ضدّها. يمكن النظر إلى هذا التوجه بوصفه مشروعًا تصالحيا ("ترميميا") لإحياء قراءة أدبية خالصة، تُعيد الاعتبار للخصوصية الجمالية للنص الأدبي بوصفها أساسًا للشرعية النقدية.

وفي المقابل، هناك تيار آخر من الباحثين يرى أن نقد النقد ينبغي أن يوجَّه نحو استعادة البعد السياسي الذي فقده النقد، أو فشل في تحقيقه. يمكن الإشارة هنا إلى أعمال إليزابيث فريمان، وهيذر لاف، وآن سفيتكوفيتش، اللواتي يعملن على تجديد البنية العاطفية للسياسة، ليس فقط في حقل الدراسات الأدبية، بل على وجه الخصوص في دراسات الجندر والكوير النسوية. ومن اللافت أن هذا التيار لا يخفي انحيازه للقراءة التصالحية بوصفها أفقًا معرفيًا وأخلاقيًا، يطمح إلى ترميم العلاقة المتصدعة بين الناقد والنص والسياسة، ليس عبر السيطرة أو الفضح، بل من خلال إعادة بناء أفق وجداني وفكري مشترك.

تشير هذه الرؤى المتعددة إلى أن الإشكالية لا تكمن في نتائج النقد فحسب، بل في بنيته العميقة كنظام للمعرفة والسيطرة، وأن تجاوزه لا يعني ببساطة رفضه، بل كشف كيف يعمل ولماذا يعجز. لا يتعلق مستقبل النقد بالتأييد أو الرفض، بل بالقدرة على إعادة التفكير فيه بوصفه حقلا مفتوحا على التوتر والتأجيل والاحتمال. أن نكون ضد النقد وضد ما بعده هو أن نؤكد على ممارسة تأويلية تحتضن التناقض وتقاوم الإغلاق وتصرّ على قيمة الصعوبة والتعقيد بوصفها شرطًا لممارسة إنسانية حقيقية. وهذا الموقف، وإن بدا مترددًا، يمثل التزامًا عميقًا بالاستمرار في التفكير النقدي، حتى وإن أصبح النقد نفسه موضوع هذا التفكير.

 لقد مثّل الجدل حول ما بعد النقد لحظة انعطافية في تاريخ الدراسات الأدبية، حيث شكّل دعوة إلى مساءلة أدواتنا التأويلية، ليس من أجل استبدالها، بل من أجل تجديد حساسيتنا إزاء ما نقوم به كنقّاد ومؤولين. وإذا كانت الدعوات الأولى لما بعد النقد قد انطلقت بوصفها ردّ فعل على الإشباع المفرط بالنقد «الارتيابي» وهيمنته السلطوية، فإنها اليوم تكتسب شكلًا أكثر نضجًا: انفتاحًا على تعددية القراءات، وعلى إمكانيات الفهم غير المبني على الانكشاف أو التفكيك وحدهما، بل على التصالح والإصغاء والاهتمام. وفي سياقنا المعاصر، لم تعد ثنائية النقد وما بعد النقد كافية لتأطير التوترات المعرفية والمنهجية التي يعيشها الحقل. فالنقد نفسه بات يمارس اليوم بوعي أشد بهشاشته، والقراءات التصالحية أو التأثرية أو الرقمية ليست بديلاً بسيطًا، بل محاولات لتوسيع مجال العمل التأويلي. وبذلك، لم يعد السؤال هو: هل انتهى النقد؟ بل: كيف يمكن للنقد أن يستمر دون ادعاء السيادة؟ وكيف نؤسس لممارسات نقدية تعرف حدودها، وتتقاطع مع مشاعر الالتباس والانقطاع والافتتان؟ إن مستقبل الدراسات الأدبية يكمن في هذا التوتر البنّاء: بين الرغبة في الفهم والرغبة في التشكيك، بين انكشاف المعنى وترميمه، بين انعدام اليقين، واستمرار القراءة رغم كل شي.

 

 


مشاهدات 253
الكاتب  عادل الثامري
أضيف 2025/05/27 - 3:27 PM
آخر تحديث 2025/05/29 - 4:33 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 279 الشهر 38224 الكلي 11032228
الوقت الآن
الخميس 2025/5/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير