الديمقراطية بين العصبية القبلية والزبائنية السياسية
مزهر الخفاجي
علينا ان نعترف اولا ان مجتمعاتنا العربية تُدين للعصبية القرابية القبلية اكثر من غيرها. وان تاريخ مجتمعاتنا الموغل في التاريخ والقريب... يرسخ فكرة العصبية، بل انه يعتاش عليها في ظل مناخين اجتماعيين:
الأول:
غياب فكرة التحديث في بناء المجتمعات العربية التي يقف وراءها فلسفة بناء الدولة الحديثة خلال اكثر من قرنين ماضيين.. إذ أن الدولة الحديثة ساهمت الى حد بعيد في ترسيخ العصبية القبلية. فضلا عن التعامل مع رموزها باعتبارها ركائز مادية واجتماعية تساعد في ضبط مجتمعاتها.
الثاني:
أنه يعود الى فشل الجماعات الوطنية الدينية ( الثقافية والسياسية معاً) الملتحقة بالأولغاركيات الثلاثة: ( القبيلة، المؤسسة الدينية، وملاكي الأراضي). في الأخذ بيد هذه المجتمعات.
مجتمعات متخلفة
وربما كانت هذه الأولغاركيات هي المستفيد من استغلال العصبية القرابية وتوجيهها بما يخدم مصالحها... بحيث تبقى تلك المجتمعات متخلفة وأسية مفهوم الولاء والطاعة النسبية ان لم نقل العمياء.
هذا الامر هو الذي جعل الباحثين في سيولوجيا المجتمعات من أن تؤكد: انه كلما كان المجتمع أعرق في البداوة / فرديته، كلما كان المجتمع اكثر عطالة، وكان اقرب الى التغلب عليه او توجيهه او السيطرة عليه.
وعلينا ان نقُر هنا ان العصبيات الخاصة ليست على درجة واحدة من القوة، ففيها العصبية القوية، وفيها العصبية الأقوى. وقد تنتصر العصبية الدينية ( الطائفية) على العصبية القرابية ( العشائرية).
وقد نجد ان العصبية القرابية / العشيرة في بلد آخر أقوى من العصبية الدينية. وقد نجد في بلد آخر ان العصبية الاقتصادية، واقصد هنا سيطرة الاولغاركية الاقتصادية أقوى من العصبية الدينية أو القرابية.
ولما كانت اللغة السياسية، ونقصد قيام نظام الحكم الشمولي او الديمقراطي.. إذ انه تم التأكد من ان السياسة لا تتم إلا بــ ( الغالب / الغلبة). وهي لا تستطيع، القصد هنا انظمة الحكم ان ترسخ اقدامها الا بتعضيد وتمدد العصبية في هذه المجتمعات.
لذلك وجدت من انه لا يمكم ان تنحصر الرياسة / الزعامة.... إلا في الكتلة التي تتمكن من الحصول على ولاء العصبية الاقوى.. وان الرياسة او الزعامة سيكون من نصيبها. ما دام هو قويا او هم اقوياء لان كل عصبية منهم وان الولاء سيكون للزعيم، وان بقاءه في منصبه وموقعه انما يترسخ بعصبية الرئيس لهم، اي الداعمين له. فبعد ان أقرّت هذه المجتمعات بشروط الطاعة وكانوا اقرب الى الاذعان والاتباع.
لذا علينا ان نوضح ان العصبية التي تعد القبيلة جوهر بنائها ان لم نقل انها الأساس لوجودها وبقاءها تاريخيا واجتماعيا انهما سيكون هدفها او مقصدها في البقاء والاستمرار والنفوذ يعود الى غايات.
أولاً: العصبية القبلية:
وهي التي تقصد توسيع ( المُلك) بشقيه الاجتماعي ( الرياسه) او بشقه الاقتصادي. وان من عوامل تمددها واستمرارها هو الحصول على اكبر قدر ممكن من الاملاك ( اراضٍ ومقاطعات).
فضلاً عن النفوذ وبسط اليد على اكبر قدر ممكن من المصالح الاقتصادية بانواعها كافة. إنّ شرط ( المُلك) أو ( التملّك) هو شرط أساس وجوهري لبقاء العصبية القبلية، لأن العصبية كما يقول ابن خلدون:
ان العصبية من دون ملك تصبح كالشخص معطل الاطراف. وان العصبية القبلية هي ضرورية... والرأي ما زال لابن خلدون شرط أساسي لاستمرار الملك وتعاظم النفوذ ولا يشترط في العصبية القبلية توافر شروط الفضيلة.
وهنالك ضرورة للرئاسة، بل ان الفضيلة ( مجموعة القيم) تكاد تكون ضرورية لبقاء القبيلة وتقدمها... بيد ان ابن خلدون وكذلك ( مونسيكو) لا يفرقان بين الفضيلة والملك والفضيلة والسياسة.
والفضيلة عن ابن خلدون ومونسيكو في العصبيات لا تشترط الكمال أو البحث عن العدل النسبي، أو البحث عن مكامن الحرية.. بل تذهب اكثر من ذلك حيث تذهب الى تكريس مفاهيم أخلاقية أقرتها كتب الاخلاق.
ثانياً: العصبية والسياسة (الحكم):
جماعة متلاحمة
يذهب علماء التاريخ والاجتماع من ان العصبية في مفهومها الاجتماعي هي ( رابطة دم) وتماسك اجتماعي يشترط فيها الحفاظ عن ممتلكات الجماعة. لكن ابن خلدون كرّس وجود العصبية القبلية كونها نوع خاص من انواع العلاقات الاجتماعية.
فضلا عن انها خير ما يؤدي الى تكريس فكرة الجماعة المتلاحمة المتماسكة التي تستشعر فيما بينها التعاطف والحميّة المتبادلة والمبادرة الى مناصرة اعضائها في كل الاحوال. وان العصبية القبلية هي المقدمة الاولى او الدافع الاعظم، كما يقول ابن خلدون للوصول الى الحكم. هنا نستطيع القول ان العصبية القبلية، التي هي ظاهرة اجتماعية، هي الابرز ظهوراً في مجتمعاتنا العربية لم تُعرَف في السابق كونها كانت ركيزة للوصول الى مفاصل السلطة.
وهي لم تكُن كما هي عندنا رابطة أسرية، فقد كان يعرفها الرومان في اليونان كونها بالشكل الآتي: رابطة الحلف / الولاء. رابطة الرق / الاصطناع. رابطة الحزب / المبدأ / العقيدة.
وفي هذا الخصوص نود ان نذكر ان طروحات ابن خلدون لم تأخذ هذه الروابط في دراسة المجتمعات الاوروبية. حيث يقول كريمر:
- « ان فرنسا التي استعبدها الرومان فقدت عصيتها وجرأتها».
أما المانيا التي لم تغلب قط فقد حافظت عليها، وان ذلك هو السبب الحقيقي في ان الحرية الحقيقية لا توجد سوى لدى الفرنسيين.. وإنما يتمتع بها الألمان.
ثالثاً: العصبية والدولة:
ان الغاية التي يهدف اليها شيوع مفهوم العصبية هي ( المُلك / الحُكم)... من خلال تصدير الامر على ان الغاية منه هو بناء الدولة. ويفسر ابن خلدون كيف ان نتيجة العصبية واضحة في الدولة القوية والكبيرة.
وذلك من خلال بالتغلب / الانتصار / الفوز على العصبيات الاخرى حتى يعظم السؤدد / المُلك... وتكون الدولة قادرة على جماية نفسها لدى الدول ذات العصبيات الكبرى. والغريب ان جوهر قيام الدولة عند ابن خلدون يبتعد عن مفهوم الحكم الرشيد، او حكم الرجل العادل الصالح. وربما جوهر القيَم التي نادت بها الرسالات السماوية والمصلحين من براهما حتى كونفسيوش.
جدير ذكره ان استغلال العصبيات يؤدي الى ثلاث أطوار هي:
- انما يُعيدنا الى نظريات السيطرة على نظام الحكم، أي السيطرة على نظام الحكم بالظفر
بها، أي بمعنى الغلبة والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي العصبية السابقة.
- هناك من يدعو الى اعادة نمط الحكم الاستبدادي والانفراد بالحكم بالمُلك ( سيطرة عصبية
قبلية) او ( عصبية مذهبية) او ( عصبية قرابية / عائلية).
- يبدوا ان العصبية القبلية تقود باتجاه نظام قرابي يحوّل التجربة السياسية من حيث انتقال
نظام الحكم عبر التداول السلمي الى عصبة سياسية تدعو الى نظام عوائلي تتراءى فيه
العوائل العصبية القرابية او العوائلية الى توارث الحكم مرّة عبر الغلبة السياسية
المعاصرة ( مال، سلاح، والتزوير)، ومرّة عبر مشروعية استمرار الزعامـــــــــــــــــــــة
( الديكتاتورية الديمقراطية).
هنا وصلنا الى ان ارتداد أنظمة الحكم الشمولية والديمقراطية الى بناء الدولة / الدول العربية... ذات الاغلبيات العصبية، إنما تتسم صورة الدولة بانها صورة العدل، مما يكرس وجود البطل الشعبي.
وايضاً يتقاطع مع مفهوم المستبد المستنير، وهو ارتداد يتقاطع مع مركزيات تراثه الثلاث: ( الدين الذي يعظم التقوي على القرابة والايمان على العصبية القائمة على الغلبة / القوة).
ويتعارض مع الحركة التاريخية التي ترفض بالمطلق دولة الظلم، وترنو الى دولة التعايش والتسامح، فالانسان اخو الانسان، إما أخٌ له في الدين، أو قرينٌ له بالخَلق. فضلا عن انها تتنافى مع المفهوم الذي ذكرته الكثير من النصوص التراثية.
التي تؤكد على ان العصبية العربية / القبلية أو القول بأنكم خير أمّة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. واذا القينا الضوء على العصبية القبلية التي تتحول الى الزبائنية السياسية.
فإن تدحرج العصبية القبلية وثمارها مع تجارب الديمقراطية في العالم الثالث، اوجدت جدل عند الممسكين بتلابيب السلطة الذين يتغنون في أساليب انتاج أنفسهم. وهذا الانتاج جعلهم يتماهون مع فكرة العصبية القبلية.
وذلك من خلال تحريك شهوات العصبية القبلية ومحاولة استعادة دورها السلبي السابق القائم على مفهوم ميكافيلي، القائم على ان الغاية تُبرر الوسيلة. وذلك من خلال انتاج عصبية قبلية قائمة على ضرورة استغلال قطيع القبيلة.
وذلك بما يخدم مصالح هذا الحزب او الكتلة او التحالف الى الحد الذي يصل به الى ان يتحوّل الى وضع اجتماعي يطلق عليه ( عليّة القوم- شيوخ العشائر ووجهائها أو ساداتها).
وتحويلهم الى ركائز انتخابية بغطاء ديمقراطي مريب. لذلك فان الزبائنية السياسية وان احتالت على شروط اللعبة الديمقراطية في الترشيح والتصويت، فإنها من حيث لا يدري المسؤولون عنها:
- تشويه مفهوم الحرية القائمة على اختيار الافضل والاكفاء والاكثر نزاهة... وليس الاكثر قرابة.
- هذا السلوك الزبائني يسيء ايما اساءة للاسلوب السلمي في التداول السلمي للسلطة القائم
على الحرية في الاختيار وليس الاكراه.
- الامر الآخر... ان الزبائنية السياسية ستجعل الجماهير تنفر من التجربة السياسية القائمة
التي تود الوصول الى احياء العصبية التي عفا عليها الزمن وتجاوزها.. ويأخذها مخيالها
الى ضرورة العودة الى مفهوم المستبد المستنير بحجّة ان الديمقراطية المشوهة لم
توصلنا الى تنفيذ ما نريد، لذلك سنتمسك بالسلطة فقط، وانما كقادة.
- وأخيراً ان النزوع الى اساليب العصبية القبلية والزبائنية السياسية ستعيد مجتمعاتنا الى
مشروع ( آيزنهاور) الذي يؤكد فيه: ( ان وصول اليسار الشيوعي الى المياه الدافئة / ويقصد مياه الخليج يُهدد مصالحنا).
جدير ذكره من كل ما سبق وما يربطه بموضوعنا، يجعلنا ان نستذكر هذه المفارقة الكبيرة التي يدعو فيها ترامب ( الرئيس الامريكي الحالي) الى حماية البلدان الصديقة لها... ويذهب الى التغييرات السلسة.
التي ربما تكون صرعة امريكية جديدة... تأتي كمرحلة بعد مرحلة الفوضى الخلاّقة.. وان التغيير السلس هذا قد يستدعي تغيير الانظمة التي فشلت في بناء تجربتها السياسية بقناعة سياسية امريكية واضحة المعالم.