على حافة القيامة: الحرب المؤجلة بين أمريكا وإيران
حامد الضبياني
يبدو الشرق الأوسط، في هذه اللحظة التاريخية، كما لو أنه مسرح إغريقي قديم، يجلس فيه البشر على المدرجات بانتظار أن يُرفع الستار عن مأساة لا يُعرَف إن كانت ستنتهي بانتصار الأبطال أم بانتحار الآلهة. هنا، على ضفاف الخليج، تتقاطع ظلال واشنطن بطهران، كما يتقاطع السيف بالمرآة؛ أحدهما يسعى للهيمنة المطلقة، والآخر يسعى لأن يرى نفسه في المرآة صورةً لا يطمسها الآخرون. وبينهما، شعوب تترقب، وأرض تحترق ببطء، وتاريخ يعيد نفسه كما لو أنه محكوم بلعنة لا خلاص منها.
منذ 1979، حين انهارت عروش الشاه، ولدت أسطورة جديدة: إيران الخارجة من عباءة الغرب لتواجه "الشيطان الأكبر". ومنذ ذلك اليوم، بدأت عقارب الساعة تسير ببطء نحو مواجهةٍ كبرى، لكنها لم تصل إلى لحظة الانفجار بعد. ثلاثون عامًا من العقوبات، وحروب الوكالة، والتهديدات، والتصريحات التي تلمح ولا تُعلن، كأن القدر نفسه يتردد، وكأن التاريخ يؤجل ساعة القيامة إلى موعد مجهول.لكن ما الحرب هنا؟ هل هي صواريخ عابرة للقارات، أم هي حصار اقتصادي يلتف حول أعناق الناس كالأفعى؟ هل هي بوارج تجوب مياه الخليج، أم أنها جنائز صغيرة في أزقة بغداد وصنعاء وغزة، حيث يموت الأبرياء بالوكالة عن صراع لم يُعلَن بعد؟ ألسنا نعيش الحرب منذ زمن طويل، لكننا لا نسميها باسمها لأنها لم ترتدِ الزي الرسمي للدمار الكامل؟أمريكا، وهي وريثة الإمبراطوريات التي سادت ثم بادت، تعرف أن النار التي تشتعل في مضيق هرمز قادرة أن تحرق النظام الاقتصادي العالمي كله. فهل تجرؤ على أن تضحي بعرش الدولار مقابل مغامرة عسكرية؟ أم أنها، كالإله المرهق في الأساطير، تريد أن تبقى على عرشها دون أن تخوض حربًا تستهلك دماءها وصورتها معًا؟ في المقابل، تقف إيران كبروميثيوس المقيّد، تسحب من النار قبسًا لتقول للعالم إنها باقية، إنها قادرة على أن تكون حجر عثرة في طريق العملاق. لكنها أيضًا تعرف أن ضربة واحدة من سيف ذلك العملاق قد تجعلها رمادًا.ومع ذلك، لا أحد يجرؤ على الضربة الأولى. فالحرب هنا ليست مجرد قرار عسكري، بل هي قدرٌ متردد. كأنها برق يضيء في السماء منذ عقود لكنه لا ينزل صاعقًا على الأرض. كلا الطرفين يخشى أن يبدأ، لأن البداية قد تعني النهاية. وكأنهما عاشقان غريبان، يلتقيان في ساحة تحدٍ لا يستطيعان الفكاك منها: كلٌّ منهما يحدق في عيون الآخر، وكلٌّ يخشى أن يرمش أولًا.
فهل الحرب قدر محتوم لا مفر منه؟ أم أنها وهم، طيف يتغذى على المخاوف، ويُستعمل كفزاعة لإبقاء العالم في حالة ذعر؟ هل نحن أمام قيامة معلّقة، أو على مسرحية لم يكتب لها الفصل الأخير؟ وإن كُتِب، هل سيكون دمويًا كما يليق بالتراجيديات القديمة، أم أنه سيتحوّل إلى مشهد تفاوضي باهت على طاولة في جنيف أو فيينا؟
إن أخطر ما في هذا الصراع أنه لا يخص أمريكا وإيران وحدهما، بل يخص صورة العالم المقبل: هل سيبقى العالم تحت شمس القطب الواحد، أم ستولد شموس جديدة من رماد هذه المواجهة؟ هل نحن مقبلون على زمن يُشبه عصور التحول الكبرى، حين سقطت روما، أو حين انطفأت أنوار الأندلس؟في النهاية، يبقى السؤال معلقًا بين الأرض والسماء: أيهما أكثر رعبًا، حرب معلنة تبدأ غدًا وتُحسم، أم حرب صامتة تظل تعيش معنا لعقود، تنهكنا دون أن نعترف بها؟ لعل الشرق الأوسط، كما يقول الشاعر، يعيش في "المنطقة الرمادية" حيث لا سلام يتحقق ولا حرب تنفجر. وكأننا أبطال في ملحمة لم يخبرنا الراوي بعد كيف ستنتهي.
قد تبدأ الحرب في لحظة خاطفة لا يتوقعها أحد، وقد تظل مؤجلة حتى يشيخ الانتظار ويُرهق كل قلوبنا. لكن الحقيقة أن الحرب لم تعد مجرد احتمال… إنها زمن نعيشه بالفعل، زمن الانتظار المسموم، حيث ينزف الناس في صمت، بينما تتلاعب القوى الكبرى بالمصير كما لو كان مسرحية تراجيدية بلا خاتمة.