الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المقاطعة والمشاركة.. جدل الإرادة العامة بين التعبير والتمثيل في التجربة الديمقراطية

بواسطة azzaman

المقاطعة والمشاركة.. جدل الإرادة العامة بين التعبير والتمثيل في التجربة الديمقراطية

 

محمد علي الحيدري

 

في التجارب الديمقراطية المعاصرة، كثيراً ما يُقدَّم خيار المشاركة في الانتخابات باعتباره المؤشر الأبرز على صحة النظام السياسي، فيما تُحاط المقاطعة بهالة من الريبة أو تُصوَّر بوصفها نقيضاً للديمقراطية أو تعبيراً عن السلبية والعجز. غير أن القراءة العميقة لمسار الفكر السياسي الحديث تكشف أن الديمقراطية، في جوهرها، ليست مجرد آلية للتصويت بل فضاء واسع للتعبير الحر عن الإرادة الشعبية، وهو ما يجعل المقاطعة والمشاركة وجهين متكاملين لا متناقضين للممارسات الديمقراطية.

 

فالمقاطعة، حين تكون موقفاً واعياً ومنظماً ومعلناً، تتحول إلى رسالة سياسية ذات مضمون احتجاجي يسعى إلى لفت الانتباه إلى اختلالات بنيوية في قواعد اللعبة الانتخابية أو في البيئة السياسية المحيطة بها. وهي ليست انسحاباً من الفعل العام، بل شكل من أشكال الضغط المشروع لتعديل المسار أو تصحيح الاختلال أو إعادة صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع. وقد أظهرت تجارب دول عديدة أن المقاطعة المنظمة قد تكون أحياناً أشد أثراً من المشاركة، لأنها تضع الشرعية السياسية تحت اختبار حقيقي أمام الرأي العام وتدفع الأنظمة نحو الإصلاح خشية فقدان الغطاء الشعبي.

 

في المقابل، فإن المشاركة هي التعبير العملي عن الإيمان بجدوى التراكم السياسي وبإمكانية التغيير من داخل المؤسسات عبر صناديق الاقتراع. إنها خيار يؤمن بأن بناء الدولة الحديثة لا يتم عبر الهدم أو الانسحاب، بل عبر التفاعل الإيجابي مع العملية السياسية مهما شابها من قصور أو محدودية. فالمشاركة تمنح قوى المجتمع فرصة لتحويل أفكارها إلى برامج، وبرامجها إلى سياسات، وسياساتها إلى تمثيل وتأثير، ولو تدريجي. وفي الدول الراسخة ديمقراطياً، ارتبطت المشاركة بمؤشر الثقة العامة في الدولة، فيما اعتُبرت نسب المشاركة المتدنية أحياناً جرس إنذار على تراجع العقد الاجتماعي بين المواطنين والمؤسسات.

 

ولعل أكثر ما يمنح التجربة الديمقراطية معناها الحيوي هو الحوار الحر والمسؤول بين الفريقين: أنصار المقاطعة وأنصار المشاركة. فذلك الحوار ليس ترفاً سياسياً، بل شرطاً أساسياً لحماية المجتمع من الاستقطاب الحاد ومن التكفير الوطني المتبادل، حيث يتهم كل طرف الآخر بالخيانة أو التفريط. إن تبادل الحجج، وتقديم البدائل، واستخدام العقلانية السياسية بدلاً من الانفعال العاطفي، هي ما يجعل من الانتخابات مساحة للتنوير لا مجرد سباق عددي على المقاعد. فمن حق المقاطع أن يوضح أسباب فقدان الثقة بالعملية السياسية أو شكوكه في استقلالية المؤسسات، ومن حق المشارك أن يشرح استراتيجية التغيير من الداخل وكيفية التحول من الاعتراض إلى التأثير. وبين هذا وذاك، يبقى الشعب هو الحكم الأخير.

 

أيًّا يكن الموقف من المشاركة أو المقاطعة، فإن المعيار الحقيقي لصدقيته ليس الشعار المرفوع ولا الخطاب الإعلامي، بل مدى ارتباط هذا الخيار بالمصلحة العامة لا بالمصالح الفئوية أو الحسابات الذاتية. هنا فقط يصبح الخلاف السياسي اختلافاً مشروعاً داخل إطار وطني واحد، لا انقساماً يفضي إلى تمزيق المجتمع أو تعطيل الدولة. فالديمقراطية ليست انحيازاً لموقف على حساب آخر، بل هي انحياز لقواعد اللعبة العادلة التي تكفل الحق في التعبير والحق في الاختلاف والحق في الرقابة والحق في المساءلة.

 

إن مستقبل الديمقراطية العربية – إن كُتب له أن يتقدم – لن يصنعه فريق واحد ولا خيار واحد. بل هو ثمرة التراكم الطويل بين الضغط الشعبي والإصلاح السياسي، بين النقد المسؤول والعمل المؤسسي، بين الرفض عندما يصبح السكوت تواطؤاً، والمشاركة عندما يكون الامتناع هروباً. وكما يقول المبدأ العقلاني الذي خبرته الأمم الحرة: لن يصح إلا الصحيح. فالطريق الذي تنحاز إليه الإرادة الحرة للشعوب هو الذي ينتصر في النهاية، سواء سلكه الناس بالاحتجاج أو بالاقتراع أو بكليهما معاً. الديمقراطية ليست حلبة إقصاء، بل مساحة اتساع للجميع.


مشاهدات 147
الكاتب محمد علي الحيدري
أضيف 2025/10/12 - 11:12 PM
آخر تحديث 2025/10/13 - 4:15 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 95 الشهر 8275 الكلي 12148130
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير