ما أفصح الفاسد حين يدعو إلى النزاهة
محمد عبد المحسن
ثمة ظاهرة قادتني بعد طول معايشة وتجربة امتدت عقوداً إلى إعادة النظر في معيار الحكم على نزاهة إنسان أو عدم نزاهته وتبني موقف جديد لا يقف عند ظاهر الحال وافتراض النزاهة حتى مع القريبين الذين دخلوا في وقت مضى في دائرة الأصدقاء عند الحكم على نزاهة أحدهم، فقبل تراكم التجربة والخبرة ، كان حسن النية يجعلني أصدّق كل من يدعي النزاهة ويظهر حماسه لها ، لكنني اكتشفت بعد سنوات مدى سذاجة حسن ظني وحكمي على من أعرف من الناس من خلال ما يدّعونه ويظهرونه من مزاعم .
كان بعضهم يذهب إلى ما هو أبعد من ادعاء النزاهة بأن يطعن - صواباً أو كذباً - في نزاهة زيد أو عمر فيضفي بذلك مصداقية مزيفة على ما يدّعيه لنفسه من استقامة ونظافة يد ، وكان بعضهم يُظهر التشدّد في عمله ليجعل الحرص المصطنع غطاءً لفساده الذي لم يكن قد ظهر بعد ، أو يخفي خلال مرحلة زمنية تضخّم حالته المالية بوسائل مختلفة يعدّ بعضها غسلاً للأموال ثم تظهر عليه مظاهر الثراء الغريب فجأة في وقت يجده مناسباً تتوفر فيه فرصة التمويه وإبعاد الشبهات .
وأمام ضعف إجراءات المساءلة والملاحقة القانونية ازداد هؤلاء إمعاناً في الفساد وإمعاناً في اتهام آخرين بالفساد !.
صارت أموال الفساد مصدر قوة لهم يشترون بها مزيداً من الذمم و(مهاويل) المديح الرخيص والمبالغات الكاذبة . يظهر التضخم السريع في ثرواتهم، وهو الذي يقع تحت مفهوم ( الكسب غير المشروع ) الذي يعرفه قانون هيئة النزاهة بأنه زيادة تتجاوز 20 بالمئة سنوياً في أموال المكلّف أو أموال زوجه أو أولاده لا تتناسب مع مواردهم ؛ وهم غير آبهين بمظاهر الثراء ، بل تجدهم فخورين مختالين يمشون في الأرض مرحاً بفعل ما جنوا من سحت .
والأخطر والأشد إيلاماً في نفوس من تمسّكوا بالإستقامة والنزاهة أن بعض الفاسدين راحوا يعلنون بكلمات صريحة عدم شرعية ما كسبوا من مال !.
في الماضي القريب كان المرتشي والمختلس وكل فاسد موضع استنكار واحتقار اجتماعي ، لكن اتساع دائرة الفساد أضعف هذا الشعور وقاد إلى ما هو أخطر .. إلى اعتياد التعايش مع الفساد والفاسدين وتلك ذروة الخراب وتراجع مؤلم للفضيلة في أوساط مجتمعنا .