قِصةٌ قصيرة
اعْرِب الجُملة الآتية
سامي شهاب الجبوري
في أطرافِ تلك القَريةِ النائيةِ الجدباء التي تتفيَّأُ بلهيبِ الشمسِ كُوخٌ صَغيرٌ تزدحمُ فيه أفواهُ البؤسِ والحِرمان ، كثافةٌ سُكَّانيَّةٌ من تسعةِ أفرادٍ تتصارعُ مع نظريةِ (مالتوس*) الاقتصاديَّة وتحفرُ عنوةً في صَخرةِ البقاء ، تلك الدُّمى البشريَّة لا تفقه من الحياةِ سِوى ما تسمعهُ والفِطرةُ تتسيَّدُ وجُودها ... بدأَ العدُّ التنازليُّ يأخذَ صداهُ وفوّهات الزمن تُصوِّبُ نحو مداه ؛ ما هي إلاَّ أيامٌ قلائِل وسيُنهِي مُهنَّدٌ أحلامهُ بدخولهِ كُلِّية الطبِّ لأنَّهُ متميِّزٌ بجدارة ... لم تكُنْ الكُتبُ تُفارقهُ بل هي مُنتشرةٌ في أرجاءِ الغُرفةِ التي يُقيمُ فيها مع اخْوتهِ الأربعة ؛ مُبعثرةٌ كفوضى خلاَّقة كما تزعُمُ أناشيدُ الثقافة ، أعمِدةُ الدُّخانِ الخانقةِ المُتسرِّبةِ من ذلك الفانوسِ اليدوي تجتاحهُم ليلاً ، ويُخيِّمُ سَوادها في تلك الوجُوهِ السَّمراءِ الخشنة بمعَالِمها ، والأوراقُ المُمزَّقة من يديهِ المُضْطربتينِ تتساقطُ كقتلى حربٍ حَولهم ؛ وهُم يدْفعونَها بانقيادٍ وكأنَّها في الأرضِ الحرام ، والقَلمُ قد أعلنَ استسْلامهُ بين كَمَّاشتي أسنانه وهو يُفكِّرُ ويقرأُ ، وقَدحُ الشَّاي المُتكرِّر برائحةِ الاحتراق كان قد سَحبَ أدرنالينَ الأعصاب من مَخْبئه ... أجواءُ الحَربِ النفسيَّةِ المُشتعلةِ في الغُرفةِ تتبارى مع اشتدادِ الحَربِ في البلد ... الأخبارُ تتَسارعُ ، والبياناتُ تتوالى ، والأغاني الحماسيَّة تُلهِبُ النُّفوس ، وأفواجُ الشُّهداء تُزفُّ قَرابيناً للوطن ، والعائلةُ في كُوْخها الصَّغير كغَيْرها تترقَّبُ العناوينَ في التلْفازِ القديمِ الذي يُسيطرُ عليه اللونانُ الأبيض والأسود ... لم تُؤثِّر عليه قَتامة المَلحمةِ وسَوداويَّة الحُزن بل كان يزدادُ اصراراً لتحقيق أُمنياته ، طَبيبٌ يُعالجُ أبناءَ وطنه ولا سيما جَرحى الحَرب ، وهُناك فَتاةٌ تختلفُ مَلامُحها عن تلك الملامح التي جَثمتْ إرثاً من الزَّمنِ في تراسيمِ فَتيات القَرية .
أخبارُ الثامنةِ مساءً ستُفصِّلُ مَسيرة يومٍ ثقيلٍ من المُعاناة ، والعائلةُ جَالسةٌ على مَائدةِ العشاءِ في تمُّوزٍ لاهِبٍ يَجرُّ أذيالَ الانتهاء ، وهُنا تَحشْرجَت العُقولُ واندهشَ الجميعُ ؛ والأعيُنُ استدارتْ نحو مُهنَّد المُندمج مع قِسمتهِ من الطَّعامِ القليل ... اسْمع اسْمع .. قرارٌ عَاجلٌ من القيادةِ يقضي بمُراجعةِ من هُم بمَواليدك مَراكز التَّجنيد يوم غد ، ألقى المُلعقة من يدهِ واتْكأ على جدارٍ مُتعرِّجٍ ورحلتْ أحلامُهُ عن مَسعاها وارتطمتْ بواقعِ قول الأب : يا بُنيّ عليك أنْ تُلبِّيَ نداءَ الوطن .
مُهنَّدٌ : ولكنْ يا أبَتِ كيف ؟ والامتحاناتُ بعد أُسبوعٍ من الآن .
الأُمُّ : تنوحُ وتندبُ حظَّها وتقولُ : اللهُ لا يُضيِّع تعبك ... اللهُ لا يُضيِّع تعبك.
رُفعَت الجلسةُ وأطواقُ اليأسِ تُخِيطُ لهُ حزنه ، والرُّؤى تتلاشى وتكتظُّ مُتجمِّعة في مَنافي العُتمة ؛ وفَلسفةُ الذَّاتِ صَدأتْ وهي تبحثُ عن مِفتاحٍ يُنْجيها ، واللَّيلُ تراخَى في ترتيبه وتمطَّى بوقتهِ الى حَدِّ السأمِ والمَلل ، كيف يُقيِّدوا الثورَ المُجنَّح ؟ ، ألمْ ترتوِ الأرضَ بعد ؟ صَهباءٌ خَمرةُ أرضنا وهي تُسكر من يَشُمّها .. يا لهُ من يومٍ مَرسُوم بفُرشاةِ القدر .
صباحٌ مُلْتصقٌ بليلٍ لم يغلقْ أبوابَهُ جعلهُ يُلمْلِمُ نفسهُ لرحلةِ اللامُنتمي ، مَجهولةٌ هُويَّةُ الخلاصِ فيها ... حملَ أوراقَهُ الثبُوتيَّة في الثامنةِ صباحاً مُتْجهاً نحو المكانِ الذي تجمَّعَ فيه آلافُ الشَّبابِ الذين لبُّوا النَّداء ... القِصصُ المُختلفة التي تخترقَ سمعَه تُدوِّنها قَوامَيسه في الذَّاكرة ، وهُم ينتظرون موعدَ إعلان الأسماءِ للتسويق .. وجُوهٌ حادةٌ وتراسيمٌ مُحتدمةُ المَعالم تدلُّ على نوازعٍ من التمرُّدِ والتعدِّي ؛ إنَّهُ فَصلٌ من أسطورةٍ عَرجاء ستُروى فيه الأشجانُ والأضغانُ وأضغاثٌ من الأحلامِ الطائرةِ نحو اللاحقيقة .. الحَرُّ في باحةِ السَّاحةِ يُتلِفُ نشوةَ الاندفاع ؛ والانتظارُ الطويلُ يُسحقُ مَوازينَ العزيمة ، حتى بدتْ شمسُ الخلاصِ بتلاوةِ ذلك البدين - الذي يتربَّعُ كرشهُ عَرشَ عَقله - الأسماء بحسب جَاهزيتها من المَصدر ... كالغنمِ المُساقةِ إلى عَرصةِ الأضاحي تتكىء أجسادهُم على بعضها في حوضِ السيارةِ الكبيرةِ (اللُّوري) ، وتحت سياطِ الحرِّ الذي خلقَ شَلالاً من العَرقِ المُتصبِّبِ هُنا وهُناك يلوذون على مَضضٍ ... امتلأتْ أحواضُ السيارات وهو ما زالَ تِمثالاً مُنْتصباً ينتظرُ حُروفَ اسمه تجمعها تلك الشَّفتينِ السَّمروايتينِ ويُطلقها كقذيفةِ صاروخٍ ذلك الصوتُ الغليظُ المُتناسب مع غلظةِ رَقبته ، لا انفراج في الأزمةِ والخوفُ يُداهِمُ كيانهُ ولا شجاعة منه لإطلاقِ السُّؤال ... ظلَّ خائفاً هكذا حتى سمعَ أصواتَ المُحرِّكات تُزمْجِرُ عالياً دلالة على الرَّحيل ، لحظة تردُّدٍ وفزعٍ جعلتهُ يُعبِّئ نفسهُ بين رُكامِ الأجسادِ ويُساقُ مثلهم نحو فيافي التدريب ... عَالَمٌ غَريبٌ مُوحِشٌ يتنافى مع خارجِ هذه الأسوار ، غِلظةٌ وصراخٌ وأوامرٌ وتعليماتٌ فِرعونيَّةٌ صَارمة ، بدأوا يُقسِّمونهم على فصائل وسرايا وهو من دُونهم لا نُطق باسمه .. ظلَّ وحيداً يجلسُ على اسْفلتٍ ناريٍّ في ساحةِ المركزِ لتتقاذفهُ الألسُن الصلبة انهضْ واركُضْ حول تلك الدَّبَّابة عُقوبة على جلوسك ، طبَّقَ الأمرَ تِلو الأمر حتى هَلك ، وتجمَّعَ حولهُ حشدٌ من الضُّباطِ والجُنودِ ؛ لماذا لم تذهبْ إلى فصِيلك ، تنهُّداته تمنعهُ من مُواصلةِ الكلامِ حتَّى أُطلِق سَراح لِسانه مُؤخَّراً ليبوحَ لهُم بالأمر ... ضحكَ الجميعُ بعد تدقيقٍ صارمٍ وجاءَ الجوابُ .. لستَ مَشمُولاً بالتَّسويق فما زِلتَ طالباً ، ألمْ تعرفْ القوانين ؟ أينَ أنت مِن هذا العالم ؟ ما هذه السَّذاجة ؟ أذهبْ واكمل مَسيرتَك .
مَرقَ مُسرعاً تاركاً المكانَ والأوامرَ والسُّرور يحتلهُ ، وفي طريقِ العودةِ سياراتٌ مُماثلةٌ لتلك التي شاهدها صَباحاً فيها أُناسٌ قد تكدَّسوا على بعضهم ، وما أنْ وصَلَ قريتهُ حتى وجدَ مِثلها وفيها شبابُ القريةِ في وجوهٍ مُبتسمةٌ وأُخرى عَكظةٌ مُتذمِّرة ، ومِن هُناك يُشير أحدهم إليه عليكم به اجلبوهُ إلى هُنا .. زاوغَ برشاقتهِ منهم وتقرَّبَ من منزله وهُم يُلاحِقونهُ ، ليجد اخوتَهُ يُساقُون كذلك في حَشرٍ جماعي ... انطلقَ غَاضباً نحوهم ليَستفهم ما جرى ، حتى جاءَ الرَّدُ بأنَّ القيادةَ أعلنتْ في تمامِ السَّاعةِ التاسعةِ صَباحاً نَفيراً عاماً وعلى الجميع التوجُّه إلى ساحاتِ القِتال ... ظلَّ يُصارعهم وهو يقولُ : ولكنَّ مُستقبلي والامتحانات .. أخذوهُ قَسراً وأصعدوهُ السيارة وهو يُردِّدُ لا لا ؛ حتى انتبه المُدرِّسُ عليه ما بكْ يا مُهنَّد ؟ لماذا لا تُركِّز على الدَّرس ؟ ماذا كُنتُ أقول في شرحِ المُبتدأ والخبر ، انهضْ واعْرِب الجُملة الآتية : الوطنُ مَلاذُنا الآمن .. وهو في سرِّهِ يقولُ : ولكنَّهُ لاذَ خلفنا ، وطنٌ يلوذُ بجُرحِه ، ولكن لهُ الأمرُ وعلينا الطَّاعة ... أعْرَبَ الجُملة وأعْرَبَ عن أمله .. فهُما في اتجاهٍ مُعاكس .
جماعة كركوك النقدية