الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعرة سمرقند الجابري وقصيدة "قبلة"


الشاعرة سمرقند الجابري وقصيدة "قبلة"

 علي البدر

 

لا دخلَ لي... إنها مهمتَك،

بأن تسأل ثيابي،

التي تترنحُ بلا حياءٍ في خِزانتها،

أو... تتقافزُ على حبالِ الغسيل

ومهمتَك...

أن تعرفَ أسبابَ غناءِ القاطرةِ

التي تحملُ زجاجاتَ عطريِ الفاتن؟

عندما قبّلتني أولَ أمس،

صارت كُتبي

تقفزُ كما لاعبي السيرك،

صحون الدارِ ترقصُ الباليَه

وأنا أضحُك فجأة بلا سبب،

في اجتماعات العمل السخيفة.

أهزُ كتفي للمرآةِ،

أغمزُ لعصافيرِ شارعِنا المخبُول،

وأشعرُ أني في كل زحام،

أكاد أهمُ بفتحِ البابِ،

وأركضُ...أركضُ.

كي أرمَي نفسَي في النهرِ.

وإذا انتصف الليل ...

أزغردُ فرحَا...

وأغمُض عيني على قبلتِكَ.

التحليل النقدي:

الموضوع العام والثيمة الأساسية:

يتجسد في هذه القصيدة حالة شعورية مشبوبة impassioned emotional state An، حيث تعبر الشاعرة عن الأثر العميق الذي تتركه القبلة على كيانها النفسي والجسدي. القصيدة تصور التغييرات التي تحدث في عالمها الداخلي والخارجي، فتتخذ من لغة اليوميات وعناصر الحياة المألوفة وسيلةً لتجسيد هذا الشعور الفياض بالدهشة والفرح الطاغي.

وبخصوص بنية القصيدة وأسلوبها الفني، نراها مليئةً بالحياة، مرحةً ومجنونةً بفرحها، تعكس كيف أن لحظةً صغيرةً قادرةٌ على أن تقلب عالم الإنسان رأسًا على عقب! أرى أن الشاعرة تعتمد على أسلوب سردي حواري لقصيدة حرة، حيث تبدأ بمخاطبة الآخر بأسلوب إنكاري تهكميironic "لا دخلَ لي... إنها مهمتك"، لتدفعه إلى التأمل في حالتها الغريبة التي سببتها تلك القبلة. تستخدم أسلوب التفصيل التدريجي للانفعالات، بدءًا من الملابس، مرورًا برقص الصحون وهرج الكتب.

وتغور في عمق القصيدة صورٌ رمزيةٌ توظفها الشاعرة باقتدار كالتشخيص أو ما يسمى بالأنسة personification وبكثافة، مما يضفي على النص روحًا مفعمة بالحياة، حيث تبدو الأشياء اليومية وكأنها تتفاعل مع شعورها. فـ "ثيابي تترنح بلا حياء"، و"القاطرة تغني"، و"صحون الدار ترقص الباليه"، و"الكتب تقفز مثل لاعبي السيرك".

هذا التشخيص يعكس حجم التأثير الذي أحدثته القبلة، وكيف جعلت العالم يبدو وكأنه يحتفل بهذه اللحظة العابرة، والكون بأسره يتماهى مع حالةٍ شعوريةٍ مشوبة a passionate emotional state هي حالتها الوجدانية.

كما تتجلى الرمزية symbolism في بعض الصور مثل "أكاد أهم بفتح الباب وأركض، كي أرمي نفسي في النهر"، التي تحمل في طياتها إيحاءً بالتحرر والاندفاع التلقائي وكأن القبلة أعطتها دفعة للخروج من الحدود المألوفة للحياة.

وبخصوص الإيقاع والموسيقى الداخلية، تعتمد الشاعرة على التكرار لإضفاء الإيقاع الداخلي، مثل تكرار الأفعال المضارعة ("أضحك"، "أهز"، "أغمز"، "أشعر")، مما يعزز ديناميكية القصيدة poem dynamic ويعكس حركة مستمرة ودائمة. كما أن الاستخدام المتكرر الى (فجأة... بلا سبب)، يمنح النص إيقاعًا متدفقًا يناسب طبيعة الحالة النفسية المضطربة بالسعادة.

تخلق القصيدة حالة من المشاركة العاطفية بين القارئ والنص، حيث ينقل الشعور بفرحة طفولية غير متوقعة، ممزوجة بنوع من التهكم المرح على الحياة الروتينية (الاجتماعات السخيفة، زحام الحياة، ثقل اليوميات)، مقابل لحظة خالدة تتجلى في القبلة، التي تظل محفوظة في ذاكرة الليل عند ختام النص "أغمض عيني على قبلتك"، وكأنها ملجأ من صخب الواقع.

تنجح الشاعرة في تقديم قصيدة تنبض بالحياة، تتجاوز المعاني التقليدية للحب والقبلة إلى فضاء أوسع من الدهشة والتغيرات الشعورية العاصفة. وبأسلوبها السردي البسيط والرمزية الذكية، تخلق عوالم مدهشة حيث يتفاعل الجماد مع العاطفة، ويتحول الواقع إلى مشهد احتفالي مبهج، كل ذلك ضمن إيقاع داخلي متناغم يجعل النص يتدفق بسلاسة وعذوبة

وبعد كل ما تقدم، لابد أن نتساءل عن كنه هذا الفارس الذي حول صوت القاطرة التي تحمل العطر إلى غناء وجعل الكتب تتقافز والصحون ترقص والثياب تتمايل فرحًا؟ لقد أصرت الشاعرة على وضعنا في دائرة جنونها وهيامها، تاركةً لنا الحريةً في الحركة وكأنها تتحدانا في كشف تلك الهوية.

ويبدو واضحًا أنه جزء من العائلة عندما دعته الى سؤال ثيابها التي "تتقافزُ على حبلِ الغسيل" وبالتأكيد الحبل داخل البيت وليست خارجه. وقد منحتنا الشاعرة ومضة مضيئة أخرى flash pointقربتنا من خصوصيتها أي بعمق غرفتها الخاصة حيث طلبت منه أن يسأل ثيابها التي "تترنحُ بلا حياءٍ في خِزانتها".

وإن كانت القاطرة تغني فلا بد للثياب ان ترقص أمامه خاصة بعد أن اكتسبت الشحنات العاطفية من العاشقة، وامتلكت طاقة أفقدتها حياءها. أن تترنح وترقص، يعني اكتسابها لمواصفات بشرية، فهي تشعر بتلك النشوة التي تفقدها رشدها. وبالتأكيد الرقص مع إنسان، لابد أن يأخذ الانسجام والحب مأخذه بين الإثنين ونحن لا نرقص مع من لا نعرفه.

من هنا يكون للشاعرة سمرقند الجابري الحق في الزهو مع شريكها في الحياة الذي قَبَّلَها قبلَ يومين وحرك بركان عمقها العاطفي لتبدو لحظات غيابه وكأنها دهر. ذلك الذي أضاء لها العتمة وحوَّلَ كلَّ كيانها الى نهرٍ جارً لتغرق في أعماقه وتنجرف في تياره، غرق يمنحها الحياة الأمان ويجعل لوجودها طعمًا. ولا غرابه، إنه الحب، تلك العاطفة المقدسة التي تجعل للحياة أملًا وكيانًا وتفاؤلًا.

قصيدةٌ مجنونة، استطاعت الشاعرة سمرقند الجابري أن تغور في عمق المشاعر الإنسانية النقية بواسطة عتبة من الممكن أن نقول عنها جريئة، ولكن بكل اقتدار ومقبولية. كيف أن لحظةً مجنونةً قادرةٌ على أن تقلبَ عالمَ الإنسانِ رأسًا على عقب!

تحياتي والورد.

 


مشاهدات 128
الكاتب علي البدر
أضيف 2025/02/15 - 1:00 AM
آخر تحديث 2025/02/15 - 12:46 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 299 الشهر 7958 الكلي 10403329
الوقت الآن
السبت 2025/2/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير