شيىءٌ من الفن القصصي
من أنا ، أين أنا ؟
ماهر نصرت
.. على حافة الرصيف أقف حائرا" ، أتشرنق بزعيق المحركات وصراخ المدينة .. يغمرني إحساس بالوحدة والخوف وسط ذلك الصخب البشري المؤجج بالحزن والفوضى ، أشعر بنبض الزمن يتراجع وكأن عقارب الساعة تمردت على مسنناتها وراحت تعود إلى الوراء بخطى الهمجية ..!
من أنا ؟ أما زلت ذلك القروي الهادئ رفيق الطبيعة الخضراء والفضاء الرحب … صديق العصافير والنهر والشجر ؟ . كيف قذفتني أمواج العشق وسط هذا الوحل المدني المدجج بالضياع ؟ الشوارع ملغومة بالحفر والحواجز الكونكريتية ، تليها أرصفةٌ محطمة يحتلها باعة بائسون ،ينادون لبيع بضاعتهم بأصواتٍ خائفة ، تخرج من حناجر فيها غصة ولوعة وألم دفين ، أيديهم تتأرجح باضطراب وكأنها رؤوس أفراخ جائعة تفتح أفواهها بلهفة أمام لقــمة تقذفها الأم في جــوف حوا صلها ، أنفاس الناس هنا تنتابها تنهيدة عميقة تحمل مع زفيرها لوعة أعوام طويلة من الخوف والسقم والحرمان ، أجساد متعبة تمضي على غير هدى تعلوها رؤوسا" متوترة وكأنها شُحنت بكهارب الغضب والتمرد والجسد الذي يعذّب.
أين أنـا ؟ هل أنا حقا" في مدينة السلام والحضارة والكبرياء .. ؟ أنتم أيهـا المخططــون ، يا أصحاب أربطة العنق الملونة وبدلات الحرير الثمينة ورزم الأوراق التي تحملونها جيئة"وذهابا ، يامن وعدتم الشعب بالرفاه والحسنى ، ماذا صنعتم لشعبكم ؟ الحياة … الحب … الرفاه … المجد … الكرامة … الكبرياء ؟ لاأرى سوى مدينة متعبة ، مدينة هربت من مدنيتها ، هجرت تراثها وممتلكاتها وفـنها وأشيائها وراحت تغوص في وحل الجهل والفوضى ، يا حضارة المجد ، حضارة سومر وبابل وأكد وأور وآشور .. أرجعي الآن ولا تترددي ، أنهضي من مقابرك كماردٍ عنيدٍ يحتضن الوجود ، أصلحي هذا الحاضر الملطخ باللوعـة والفقر والتخلف ، اصرخي بوجـه أولئك الذين أطفئوا شعاع مجدك باستبداد الرأي والحروب العبثية .
من أنا حقا" … ؟
أما زلت ذلك القروي العاشق الذي أرتحل عن قريتـه إلى بغداد يبحث بين أروقة المدينة عن قريبـته الهاربة … تلك القروية الجميلة المسماة ( أنــوار ) التي ستفقد جمالها الأسطوري هنا بين أزقـة الآلام ومساكن الحزن … أراها في زجاج السيارات المسرعة تحدق في عيني وتصرخ صراخ مدوي ، كدوي سيارة مفخخة تحطم زجاج البنايات وتكبت أنفاس الروح ، وهي تصرخ في وجهي :
- أنت أيها القروي العاشق ، عد إلى أرضـك البعيدة وأشواك البرية ، لقضبان سجنك الأبدي ، لقوقعتك المغلقة منذ القدم ، لمحراب طقوسك المعتـقـة ، ودعني أبحر مع أمواج الرغبة والوجود ، دعني أهرب من بقعة الوحشة اللامتناهية وأسوار الحرية المؤصدة في قرى العدم واللاوجود ، دعني أنطلق كالحصان الجامح فوق رمال البحر الممتدة مع مدى الروح .. تشدني ذراع رجل ما ، أجد في احضانه الدافئة أنوثتي ، ، دعني أفجر براكين غرائزي التي هرمت في منـفى قريتكم بلا ذنب أرتكبه ، سوى أني نشأت وسط أقارب لا يعرفون غير لغة السلاح والموت ، يتقاتلون فيما بينهم من أجلِ عيني الزرقاوين وشعري المذهب وجسدي الأشقر الممتلئ ذات الخصر الوسيم … ثلاثون عاما" وأنا مقيدة في أسرتي الفقيرة أنتظر الفارس المغوار من أولاد عمي الذي سينتصر في النهاية ليتزوج المرأة المحطمة ضحية سنين عنادكم وتقاليد الجهل والتخلف ، عبثا" أنتظر ، نجوم السماء أقرب لكم من أن يتزوجني أحدكم ، لأنكم بلا رحمة ولا تمتلكون مشاعر البشر .... الكل يوجه فوهات البنادق للآخر ، صياح الأفواه فوق جثة في النهار يمتد لرصاص الثأر في الليل ، أغنية الفجر لديكم نواح أرامل وعويل يتامى ، فجركم دامٍ كأفقٍ أحمر تهاجر فيه أسراب طيوركم وهي حزينة ، ترحل بأحلامها نحو قمم الجبال الجرداء ، بعيدا" هناك ، حيث الأمن والسكينة فلا غارةٍ عشائرية ولا قتل ولا جثث ولا جنائز .... .
وتهتف ثانية" بعد برهة من الصمت الساخن. ،
- عد إلى أرضك يا حاتم يا أبن هزاّع ، إلى حبات رملك المخدشة ورياح شمسك المحرقـــة ، إلى رائحة الموت المنتشرة بين انهار حقولكم وخلف اشجاركم ، إلى واقعك العنيف الموروث منذ مئات السنين ، ودعني … دعني أحيا سنين حياتي المتبقية هنا بين حبيب يجذبني ومعجب يلاحقني ، دعني أنطلق كفراشة هاربة من بطش جراد الحقول ووخز أشواك البرية ، أطوف فوق قرى اليأس ، فوق بيوتا" مدفونة في أعماق البراري أجمع النساء الضحية من أمثالي ونهرب جميعا" نحو القمر ، نحـو النــجوم ، مثل طيوراً متمردة تهاجر أعشاشها إلى الأبد … دعني .... …
ويدوي انفجار قريب أيقظني من سراب حلمي وصراخ أنوار الذي الهم خيالي ، انطلقت بلا وعي راكضا" مع الناس بقوة خارقة تقمصت جسدي المرتعش وكأننا في سباق ماراثوني نتجه صوب الانفجار ، أشعر أن أنوار بجانبي الآن كما هي في خيالي وحلمي دوما" ، دموعها تصب في قلبي وهو ينبض خافقا" مرتجفاً ، لا أدري ، أهي دموع الحنين إلى الأهل والعشير وانا تائه بلا معنى في مدينة الرعب ؟ أم هي دموع الفراق السرية كدموع الندم التي تنهمر في زوايا حانات الليل ومراقصها ؟ رحت أقترب من منطقة الانفجار وشبح الحبيبة يلاحقني ، يحاصر أعماقي بقوة غامضة تمدني بطاقة الحياة والأمل والانطلاق العنيف ….. وصلت منطقة الحدث قبل ان تتوقف انفاسي بلحظات ! كان مشهدا" مروعا" ، دمار لبناية من طابقين كانت قائمة هنا منذ لحظات تحوي شققا" سكنية وبعضا" من المحال التجارية ، تسكنها عوائل فقيرة كما يبدو عليهم من اهالي الحي دفن بعضها تحت الركام ، جثثهم تحترق داخل شفاه نار مفترسة تلتهم كل شيء ، سحب دخان غليظة تطاول السماء ، أشلاء ممزقة تلتهب ، أصوات استغاثة تتصاعد من بين الأكوام ، أنين مصابين ونزيف جرحى ، صرخات نساء وأطفال أصابهم الجنون ، تكبير شيوخ عجزة أغمي على أحدهم من هول الانفجار فأرتمى بجسده وسط الطريق يقوم رجلان بإسعافه ، مركبات متناثرة وأخريات محطمة تحترق إحداهن بسائقها مع ثلّة من النسوة اللواتي حبسن بداخلها ، سيارات إسعاف تكتسح المنطقة بزعيقها المخيف ، عجلات إطفاء تتسابق بجنون يقفز منها رجال إنقاذ مسرعون وضعوا فوق رؤوسهم قبعات حمراء أخذوا يقتحمون الأكوام بسرعة ،
وقفت بين الأنقاض أطاول بنظري السماء وشفتاي ترتعشان بعد أن تجمعت في صدري صرخة عظيمة تكاد تخرج بتوحش لتشق السحاب وتبتلع الآفـــاق .
وفجأة :
اخترقت سماء بغداد أسرابٌ مهيبة من الطيور المهاجرة تتجه شرقا" … استدارت الطيور عائدة من حيث أتت ، وبحركة ميلان مدهشة وتنسيق رائـع هبطت تشكيلاتها نحو فضاءآت الكارثة منكسة الرؤوس تحاول عبورها ثانية" ببطء وتأرجح وأنضمام ، حتى تعالت مجتمعة صيحات آلآف الطيور مُلئت أسماعنا وأرهبت نفوسنا وكأنها تعلن بصيحاتها تلك عن عزائها لأرواح الأبرياء وللطبيعة وللسماء وتلعن بصيحات حناجرها همجية الإنسان وقسوة الضمير .