الإنسان أبن ما يلد
علي حسين الخفاجي
لطالما طرأت على مسامعنا مقولة "الإنسان ابن بيئته" والتي تُستخدم غالباً لتفسير سلوكيات الأفراد ومعتقداتهم وفقاً للبيئة الجغرافية والإجتماعية التي نشأوا فيها، ولكن هذه العبارة تعكس نظرة تقليدية ترى أن الإنسان محكوم بالعوامل الخارجية المحيطة به سواء كانت ثقافية، دينية، إجتماعية، أو إقتصادية. ومع ذلك فإن هذه المقولة لم تكن فعالة على مدار التاريخ البشري الطويل، بل إنها فقدت الكثير من قيمتها مع تطور الحياة، وتوسع آفاق المعرفة والإنفتاح العالمي الهائل خاصةً في ظل العصر الرقمي الحديث. حيث لم يعد الإنسان يُعرَف فقط من خلال البيئة التي ولد فيها أو الجماعة التي ينتمي إليها، بل أصبح يُقاس بقدراته الذاتية ومهاراته الفكرية والإجتماعية التي يكتسبها خلال حياته. فالمعتقدات، والقيم، والأنماط السلوكية لم تعد محكومة بالإطار الجغرافي أو الطبقي كما كان الحال في العصور السابقة، بل أصبحت مسألة فردية تتأثر بشكل كبير بإرادة الإنسان وتفاعله مع المعرفة والتجارب المتاحة له. وهذا يعني أن الإنسان لا يكون مجرد نتاج تلقائي لمحيطه، بل هو كيان واعٍ يمتلك القدرة على التطور الذاتي وإتخاذ قرارات مستقلة بعيداً عن تأثير بيئته الأصلية.
فالإنسان يمتلك الإرادة الحرة التي تجعله مسؤولًا عن تشكيل هويته وتحديد مصيره، بمعزل عن القيود التي قد تفرضها عليه بيئته. فحتى في البيئات القمعية أو المحدودة يمكن للأفراد أن يطوروا أنفسهم ويكسروا الحواجز الفكرية والإجتماعية التي تحيط بهم. وعلى العكس فإن العيش في بيئة محفزة لا يضمن بالضرورة نجاح الشخص وتطوره، إذ أن الأمر يعتمد في النهاية على وعي الفرد وإستعداده لإستغلال الفرص المتاحة أمامه. فهو ليس مجرد وعاء يُملأ بأفكار المجتمع الذي نشأ فيه، بل يمتلك القدرة على التعلم، والتجربة، والتطور مما يجعله قادراً على تشكيل رؤيته الخاصة للعالم. فعلى الرغم من أن الجينات تلعب دوراً في تحديد بعض الخصائص الأساسية مثل الذكاء، والجمال، والجنس، إلا أن الإنسان أثبت قدرته على تجاوز المحددات البيئية، وابتكار نمط حياة مختلف عن الآخرين حتى في ظل الظروف المتشابهة. حيث يرى المؤرخ "يوفال هراري" أن الثورة الإدراكية التي حدثت قبل ٧٠ ألف سنة كانت نقطة تحول أساسية في تاريخ البشرية، إذ تمكن "الهوموسابينز" أو الإنسان العاقل من التفوق على "النياندرتالز" والمعروف بالإنسان البدائي، عبر تطوير قدراته اللغوية وبنيته الإجتماعية، مما سمح له بالتكيف مع بيئات مختلفة وإنشاء مجتمعات أكثر تعقيداً وتطوراً.
ومع دخول القرن الحادي والعشرين وبروز الثورة الرقمية شهد العالم تحولاً جذرياً في طبيعة حياة الإنسان، حيث أصبح تأثير التكنولوجيا لا يقتصر على الجوانب المادية فقط، بل أمتد إلى البعد الفلسفي والإجتماعي والنفسي. ولم يعد الإنسان مجرد كائن بيولوجي بل أصبح كياناً رقمياً يعيش في بيئة افتراضية متكاملة، تؤثر على وعيه، وتغير طريقة تفكيره، وحتى تساهم في تشكيل علاقاته الإجتماعية والهوية الثقافية التي ينتمي إليها. والأكثر من ذلك فإن التطورات العلمية باتت تتيح للإنسان إمكانية تعديل جيناته الوراثية ليصبح أكثر تكيفاً مع الظروف البيئية الجديدة، وهو ما يشير إلى أن تأثير البيئة أصبح أقل حتمية مما كان عليه في العصور السابقة. وهذا التحول السريع جعل القيم والتقاليد الثقافية والإجتماعية في حالة مستمرة من التغير، فلم تعد المجتمعات متماسكة كما كانت من قبل، وأصبحت الأخلاق أكثر مرونة، والعادات والتقاليد أقل صلابة، نتيجة لعملية التداخل والإندماج بين مختلف الحضارات.
إن الإنسان في العصر الحديث لم يعد مكبلاً بقيود الماضي أو البيئة التي نشأ فيها بل أصبح مرتبطاً بمستقبله أكثر من حاضره، حيث تتشكل هويته ضمن إطار عالمي متشابك ومتغير بإستمرار. لقد فقدت الحدود التقليدية بين الثقافات والأفكار صلابتها، وأصبح الإنسان أكثر انفتاحاً على مفاهيم جديدة تتجاوز القيم والعادات التي نشأ عليها، وهذه الظاهرة تعكس كيف أصبح الفرد اليوم في مواجهة تحدٍ كبير يتمثل في القدرة على التكيف مع عالم سريع التغير، حيث لم تعد البيئة هي العامل الحاسم في تشكيل الإنسان بل أصبح هو ذاته من يصنع بيئته وهويته، وفقًا لما يسعى إليه وما يطمح لتحقيقه. ففي ظل التحولات العميقة في عصرنا أصبح الإنسان أبن خياراته وأفكاره وتجاربه الذاتية، وهو المحرك الأساسي لمصيره وهويته تتشكل على أساس قدراته وإرادته. مما يجعله ذلك مسؤولاً عن تحديد مساراته التي يريد أن يسلكها في حياته.