لنفكر مثل ديكارت خمس دقائق فقط
نوزاد حسن
نعرف جميعا من هو ديكارت,باختصار انه فيلسوف فرنسي حاول ان يقدم تجربة تقترب من روح العلم.ولم يجد افضل من خوض تجربة ذاتية يكون الشك احد ادواتها المفيدة.
شك هذا الفيلسوف بكل شيء.شك انه موجود,وان معرفته موروثة من ابويه,وافترض انه ربما يحلم وليس صاحيا.وقد يكون هناك شيطان يتلاعب به.وفي غمرة ليل الشك هذا توصل الى يقين لا يمكنه ان يرفضه.هذا اليقين هو ان شكه الفلسفي هو الحقيقة الوحيدة التي لا يتمكن من ان يشك فيها.
احاول هنا تقديم قكرة بسيطة جدا لكنها لا تغني عن قراءة كتابه الثوري"التاملات في الفلسفة الاولى".لن انسى وضوح ذهن ديكارت,وبراعة حججه,وبساطته,وهو ينتقل بنا خطوة بعد اخرى الى يقين نقتنع بانه الحقيقة او على الاقل نقف لنقول ان ديكارت خاض تجربة فريدة جدا في تاريخ الثقافة,وان لهذه التجربة جانبا اخلاقيا لا بد من الانتباه اليه.ومحاولة فهمه لكي نفهم انفسنا اولا,ثم ان نتخلى قليلا عن قناعات نراها لا تقبل النقاش,وهي في الحقيقة افكار او سلوكيات متوارثة جيلا بعد اخر.
اذن يمكننا تاويل شك ديكارت بانه شكّ مفيد,فاعل,ايجابي.لنقل انه صدمة عقلية نحن في امس الحاجة اليها.وبعد قرون سرنا في طريق اليقينيات التي تنسف ما عداها.فهناك من يظن بانه ملك الحقيقة كلها,وعلى الاخرين ان يقبلوا بما عنده.لذا يتحول الانسان في كل مكان وزمان الى كائن عنده حقيقته التي لا يعرفها غيره,.وهكذا تتحول الحياة الى مجال واسع تتصادم فيه يقينيات لا تقبل الشك ابدا.وفي مثل هذا العالم الغاص بتلوث الهواء نجد انفسنا منقادين الى تلوث اخر اشد قسوة هو تلوث العلاقات الانسانية بسم اليقين القاتل الذي حاول ديكارت ان يعلمنا كيف نتخلص منه,او على الاقل علينا ان نقوم بمحاولة لتأويل شك ديكارت تأويلا يقترب من صدقه الفلسفي.
لا بد من الاقرار بصعوبة اية محاولة لنقد ايّ يقين يؤمن به الاخرون.تاتي الصعوبة من تحول اليقين الى هوية محددة تعرفنا على صاحب هذا اليقين.ولو حاولنا ان نلقي نظرة على واقعنا مثلا لمعرفة ما قلته قبل قليل عن تحول اليقين الى هوية فسنكون امام عالم معقد من الايمان الديني بمذهب من المذاهب الى غير ذلك من اليقين بوجهة نظر ماركسية او غير ماركسية في تفسير العالم.مع الوقت تتحول افكار قليلة الى يقينيات منغلقة تتصلب لتشكل هوية نطلقها على مجموعة من الناس.نقول هؤلاء من طائفة معينة.ومن هنا تبدأ مشكلتنا الاخلاقية الاخطرفي حياتنا.
لا اتمنى ان يفهم كلامي على انه انكار لايمان الانسان بمذهب ديني او غير ديني.الايمان حق مشروع لكل فرد.لكن اذا تحول هذا لايمان الى هوية فعند ذلك نجد انفسنا امام واقع اجتماعي اخر.ولنتخيل شكل مجتمع ينظر بعضهم الى البعض الاخر على انهم غير ناضجين لانهم لا يؤمنون بيقين تحمله جماعة دينية او غير دينية.مثل هذا المجتمع مريض لان الانسان لا يكون انسانا فيه.كيف؟الانسان كائن له حق الايمان وغير ذلك من الحقوق.لكن هناك من يعتقد بثقة كبيرة ان ايمان الاخرين مجرد كذبة لا بد ان تزول.بهذا المعنى سيكون الانسان شخصا مخطئا في نظر اصحاب اليقين السام الذين يفكرون طوال الوقت بهداية ذلك الفرد الضال.لنلاحظ اين وصلنا.؟
اليقين السام الذي صار هوية قسم المجتمع الى نصفين.فئة لديها هويتها المحددة وفئة ثانية ضالة بلا نقاش.ومن الغريب ان الفئة الضالة تنظر الى الفئة الاولى على انها هي الجماعة المنحرفة عن الحق.وفي الحقيقة تضيع اشياء كثيرة في مثل هذا المجتمع.تضيع المواهب والامكانيات والعلاقات الانسانية ليحل محلها تضامن شكلي فارغ تفرضه مناسبات ومجاملات لا بد منها في عالم اليوم المعقد.
اذن بم سيسعفنا ديكارت؟ما هو حله لنتخلص من تزمت اليقين السام الذي صار هوية تنظر للاخر على انه ضال لا بد من هدايته او قتله.ترى ما هي رسالة الشك الديكارتية لنا او كيف نوظفها لنكون في مستوى انساني اخر غير ما نشهده من صراع داخلي وخارجي ايضا بين شخصين يعتقد كل واحد منهما انه على حق.؟
اؤكد ان المهمة صعبة لكني ساصفها وفقا لما فعله ديكارت.ساتساءل واعذروني لتساؤلي هذا:هل من السهل ان يقول انسان ان معارفي او تفاصيل ايماني جاءتني بالوراثة من اجدادي,وانها قد تكون خاطئة.وان شيطانا قد يكون علمني اياها.لا اظن ان هذا امر سهل فكيف يمكن للانسان الشك في معارفه التي تملأ راسه.؟ان مثل هذا الشك مزعج,ويسبب صداعا في الراس. وهو اكثر قسوة لانه ينسف يقينا يؤمن به الانسان,ونسف اليقين يعني نسف الهوية,ونسف الهوية يعني ايضا ان الانسان سيظهر بلا ملامح,ولن يكون منتميا لجماعة محددة,يشاركها طقوسها واعيادها وتقاليدها.لذا يمكنني القول ان شك ديكارت كان ضربة لمبدأ اليقين السام الذي صار هوية.وحين شك الفيلسوف الفرنسي بكل شيء فانه تحرر من ضغط اليقين والهوية المحددة.اصبح حرا بمعنى ان عقله تخلى عن حمولة ثقيلة جدا جاءته من اسرته وعالمه وتاريخه الغربي.ان هذه الحركة الذهنية العاصفة اعني حركة الشك تشبه خدر الاطراف التي تعيقها عن الحركة ثم تزول لتتحرك من جديد.ما يحدث في العقل اثناء الشك هو تغيير داخلي في بنية العقل.واذا كان الشك حقيقيا لا مزيفا فان العقل بعد ضربه بمطرقة النار سينفصل عن الانفعال الذي يرتبط بذلك اليقين.وهذا امر طبيعي جدا.دعوني اوضح هذه النقطة جيدا.ان ايماني بنظرية المؤامرة على سبيل المثال يحرمني من متعة البحث عن تجربة سياسية صادقة.اقول كل شيء يحدث في هذا العالم هو نتاج نظرية المؤامرة.هذا الجزم هو انفعال سببه اليقين العقلي.وهناك انفعالات اكثر تعقيدا مثل الانفعالات الدينية او القومية وغيرها كثير.انني ساكون حرا حين اشك بما تعلمته وورثته من الاخرين.وتكون حريتي مضاعفة لانني فصلت عقلي عن انفعالي الشخصي.وهذه هي اقوى صدمة يريدني ديكارت ان اتعرض لها.انها في الواقع صعقة كهربائية مدمرة لا يدرك الكثيرون جمالها والمها في الوقت نفسه.في تجربة الشك الديكارتي يجتمع النقيضان معا:الجمال,والالم.وبعد هذه التجربة نصل الى وعي جديد حر صاف يرى العالم من جديد,ويتعامل مع الاخرين بمرونة اكثر لان الاخرين اصبحوا بشرا وليسوا كائنات ضالة.
اؤكد:انها تجربة صعبة للغاية وتتطلب مجهودا شخصيا لا يتدخل فيه احد ولا يمكن ان يتدخل.لا يوجد عقار يقودني الى الشك في معرفتي ويقيني.لا توجد قواعد تسهل عليّ عبور سور الصين الذي بني في داخلي لصد حقائق هذا العالم المختلفة.انها تجربة مؤلمة ان اقف بلا يقيني السّام الذي ورثته كاي ميرات اخر.ثم اقرر في لحظة ديكارتية ان اقص بمقص الشك حقائقي التي اتشارك بها مع من يشبهونني من الناس.هذا يغني انني ابتر جزءا مني والقيه خارجا ليبقى فراغ عقلي مؤلما.لكنه فراغ ممتع اصيل لا يخضع لملكية احد.
هكذا يمكننا فهم شك ديكارت,واظننا بحاجة الى خمس دقائق فقط نجرب بها مواجهة انفسنا لنصل الى وعي جديد انساني ينظر للعالم نظرة اخرى.
خمس دقائق من الشك ستصنع فينا ما لا تصنعه عقود من القين السام الذي يقلنا من الداخل,ثم يقتل كل ما حولنا:الاخر والجمال,والواقع,والموت,والكتب والفنون ...