أم البنين منارة العقيدة والوفاء
حسين الزيادي
تميز التاريخ الإسلامي بشخصيات نسوية عظيمة، خُلدن على صفحات الثبات على قيم الفضيلة، ووقفن مواقف مشهودة جسدت الوجه المشرق للشريعة السماوية السمحاء، ومن تلك الشخصيات فاطمة بنت حزام الكلابية، المكناة بأم البنين، تلك الشخصية الجليلة التي برزت في التاريخ الإسلامي بمواقفها الثابتة ورسوخ ايمانها وعطائها اللامتناهي، فهي زوجة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، اهلها من سادات العرب واشرافهم وزعمائهم المشهورين، فضلاً عن مالهم من فاضل السجايا وطيب المنبت ورزانة العقل، وقد اكد نسابة العرب عقيل بن أبي طالب عن ذلك بقوله لأخيه الإمام علي (عليه السلام) حين طلب منه ان يختار له امرأة ولدتها الفحول من العرب: (ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس)، أخلصت رضي الله عنها في حياتها لزوجها فكانت في منتهى الوفاء، ونذرت عمرها لخدمة سبطا النبي الكريم الحسن والحسين عليهما السلام، فكانت تؤثرهم على نفسها وعلى اولادها، امرأة نقشت اسمها على رخام الأبد في مواقفها الكريمة التي تمثل قمة الوعي والبصيرة، ضربت هذه المرأة العظيمة اروع الامثلة في الوفاء والاخلاص والطاعة لبيت النبي الاكرم، فقدمت أبناءها الأربعة لمنحر الشهادة يتقدمهم الأخ الأكبر قمر بني هاشم أبو الفضل العباس عليه السلام في فاجعة الطف الاليمة ليكونوا خير معين لسيدهم ومولاهم الإمام الحسين عليه السلام.
لقد حزنت أم البنين(عليها السلام) على مصاب الإمام الحسين(عليه السلام) أشد من حزنها على مصاب أبنائها الاربعة فأي وفاء هذا واي شجاعة ونبل والإيثار ترتسم في ملامح هذه الشخصية الرسالية، ويحدثنا التاريخ انه لما دخل الشاعر بشْر بنُ حذلم إلى المدينة ناعياً الامام الحسين (عليه السلام)، خرجت سائلة عن الحسين مذهولةً عن اولادها الأربعة، فلما سأل عنها قيل له: هذه أُم البنين ام العباس وعبدالله وجعفر وعثمان، فقال لها: عظّم الله لكِ الأجر بأولادك جعفر وعثمان وعبدالله، وهي تقول له: خبّرْني عن ولدي الحسين، فتعجّب بشْر منها وقال لها: عظّمَ اللهُ لكِ الأجرَ بأبي الفضل العباس، فاضطربت وسقط من يدها طفل كانت تحمله، فقالت له: ياهذا لقد قطّعت نياطَ قلبي، هل سمعتني سألتك عن أحد، أخبرني عن ولدي الحسين، فاضطُر بشْر ان يقول لها: عظّم اللهُ لكِ الأجر بأبي عبدالله الحسين، فنادت ووالداه واحسيناه وسقطت مغشياً عليها . من جوانب الوفاء انها كانت توصي ولدها العباس(عليه السلام) أن ينادي اخاه الحسين دوما بالسيادة وليس بالأخوة، لذا يلحظ ان ابا الفضل في معركة الطف بعد ان فدى الحسين عليه السلام بسهم في عينه، وقدم ذراعيه قربانًا لنصرته، في هذه اللحظة فقط نادى اخي حسين ادركني، فأي فداء وأي تضحية .ومن مواقف الوفاء والايثار التي خلدها التاريخ لام البنين ان امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام: يسألها هل من حاجة يقضيها لها؟ فأجابته: لدي حاجة لا غيرها قال ماهي؟ قالت ان لا تناديني باسم فاطمة لأنني اخشى على ابناء الزهراء عليها السلام ان يسمعوا اسم امهم فيتألموا ويتجدد حزنهم لفقدها ، فغلبت الكنية على الاسم، هكذا هي أُم البنينِ بإيمانِها وعقيدتِها ووفائِها لآلِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله)، فهي بحقٍ ايقونة الوفاءِ ورمز الايثار والتضحية ، وما احوجنا اليوم لتربية النفس على هذه المثل والقيم التي تركتها السيدة أم البنين والتحلي بسيرتها العطرة وأخلاقها الكريمة وجعلها منهجاً تربوياً في الحياة، فان الاقتداء بالعظماء لايعني ان نكون نسخة منهم، فلا يمكن للأيام ان تعود الى الوراء، وهذا ليس من المنطق والعقل، لكن بالإمكان الاستفادة من تجاربهم، فان تغير الزمان، فان السلوك والثقافة والفكر تركز على قواعد ثابتة من القيم والمبادئ التي لا تتغير.