حوار في عوالم نعيم عبد مهلهل: الأهوار ثيمة الذكريات والقصص والعشق
حاوره: جمال الخرسان
يشتغل الكاتب والروائي العراقي نعيم عبد مهلهل في ثيمة متفردة لعالم غريب وجميل بدهشة اجواءه وجغرافيته وهو عالم الاهوار الذي كرس الكثير من نتاجه الابداعي لاجل هذا العالم في اثني عشر كتابا وبفيلم سينمائي واحد ومجلة تعتني في هذا العالم وتطويره، ولمعرفة مزيد من التفاصيل واسرار عشقه لهذا العالم المهدد اليوم بالانحسار البيئي والطوبغرابي لانحسار الماء عن اراضيه يكون الحوار مع مهلهل رؤية واستشراق لعالم من اطياف الازمنة واساطيرها ومعها يمتزج كما يقول نعيم عبد مهلهل حزن الهجرات الجديدة وضبابية المصائر لسكان اهوار وهم يشاهدون موتا جماعيا لقطعان جواميسهم.
لو لم يكن نعيم عبد مهلهل مدرسا في الاهوار هل حمل على اكتافه اور والاهوار حيثما ذهب ؟
- لو لم يكن . تلك العبارة القدرية الدائمة التي تجعل الحسرة والتمني والاسف يصنع عبارة ( لو ) ولكني حتما لو لم اكن مدرسا فأنا وليد هذه البيئة وامكنتها، وعليه فأن المكان سيسكني بذات الخواطر، وهذا آتِ مع هاجس الطفولة وصبا المدرسة وكتب الثقافة الاولى وتلك الموهبة التي تسكن الجنوبي عندما تشده اجفانه للانتباه الى المكان وخليقته كما كانت زقورة أور تفعله فينا في السفرات المدرسية أو عندما نسمع حكاية بناءها من فم مدرس مادة التاريخ في الصف الاول المتوسط .
وكما تعلمت ان الذي لايبشر بمكان ولادته لن يستطيع ان يتميز بأبداعه بين الاخرين فالمكان يمنح صاحبه خصوصية منتجه وذائقنته وثقافته وخلقه ايضا.، لهذا شرف ومديح وجمال أن يحمل الكتاب أمكنته الأولى على أكتافه أينما حل وأرتحل .!
حديث النفس
تتحدث كثيرا عن «الميثولوجيا الرافدينية « بشكل عام وميثولوجيا الاهوار بشكل خاص.. ما هو الذي يميزها لغير ابنائها؟
- الحديث عن الميثولوجيا الرافدينية بالنسبة لي هو الحديث عن نفسي وذاتي وروحي والمفردات الثلاثة هي كياني المتكون على شكل جسد فيه ذاكرة وعقل واحاول من خلال هذا الذاكرة أن أعيش أحلامي وأنتج رؤى الكاتب فيما أنا أمارسه وأتخصص فيه الرواية، الشعر، المقالة والنقد، وحتما فأن ميثولوجيا الأهوار هي واحدة من المنابع الاصيلة والاولى لميثولوجيا بلاد الرافدين، وحتما فإن اول اساطير الخليقة مثل الطوفان واسطورة حلم كوديا وأسطورة آدابا صنعها خيال المكان الاهواري وبيئته عندما كانت هذه الاهوار موطنا للسلالات الاولى التي نشأت قبل التاريخ ولتصنع امجاد ملوك المسلات والاساطير. والذي يميزها انها امكنة خالدة صنعت الخلود لابنائها وقرب ضفافها ولد الانبياء والمفكرون والجنود الذين اوصلوا مجد سومر الى ارمينيا والهند وعُمان وجبال طوروس.
تمتلك منتجا غزيرا من مقالات وابحاث ومؤلفات معظمها يتمحور حول الاهوار ... هل ثمة شيء بقيَّ في بالك عن الاهوار لم تكتب عنه ؟
- أنا كتبت خمسة كتب عن عالم الأهوار، وأيضا عملت سيناريو فيلم عنوانه (الأهوار .. ذاكرة الماء وقصة مكان) جميعها صدرت بكتب في دمشق وعمان والعراق وفيها رصدت احلام المكان بطريقة مازجة فيها بين أحساس المكان الروحي وتأريخه، أي انني أشتغلت على الكامن الروحي في المكان من خلال بيئته ومكوّنه السكاني وبيئته وتأريخه وأحلامه، ودرست مؤثرات الأحداث في المكان ومتغيراته عبر الحروب والاقصاء والتجفيف . فالأهوار هي عالم الخصوبة التي صنعتها طبيعة المياه ، وهو منتج يتجدد فيه الابداع والمتغير والهاجس أيضا، أي أن بيئة الاهوار هي ولودة دائما ومصدر خصب للكثير من الفعاليات الحياتية والحضارية وانها مكمنا هائلا للصور والمواضيع بشكلها الصوري والفكري، ربما لانها تمتلك ما لم يكتشف بعد في بواطن تلول الاثر فيها أو ما لم يكتب عن اساطير صمود ابناءها في وجه الطغاة والغزاة منذ ان حاول الاسكندر ان يخضع اهلها وحتى جريمة محاولة تجفيف تلك الاماكن.
لهذا يتجدد العالم كل يوم وبأمكان أي واحد مثلي يعشق المكان أن يجد موضوعته الجديدة ويتناولها.
ساهمت في اخراج مجلة الاهوار الصادرة عن وزارة الموارد المائية... لماذا توقّف المشروع ما ان غادرت العراق هل هو مرتبط بك فقط؟
- مجلة الأهوار التي صدرت بعددين مهمين عن وزارة الموارد المائية هي من بعض احلام عشقي للمكان وكنت اطبعها في دمشق وابعثها الى بغداد والفضل في اصدارها يعود الى دعم الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد وزير الموارد المائية السابق وكبير ورئيس الجمهورية حاليا وهو الذي كان الداعم الاول لجميع كتبي عن الاهوار، والسيد رئيس الجمهورية الدكتورعبد اللطيف اكاديمي مختص بمجال المياه والغذاء ويمتلك وعيا كبيرا ورؤيا متطورة واحلام لاحصر لها عن موضوعة الثروة المائية في العراق التي ينظر اليها انها احدى مخاطر وتحديات المستقبل بالنسبة لبلد كالعراق منابع انهاره من جارة تتعامل معه بمكيال الضغط السياسي وبناء السدود قرب منابع النهرين. والرجل يعيش هذه الاشكالية وينظر لكثير من حلولها المقترحة ولا اعرف لماذا تم التفريط بخبرته ورؤيته وتجربته في هذا المجال وكان بالامكان عند تركه عمله الوزاري ان يهيّء له فتح معهد للدراسات الاسترتيجية في هذا المجال وكان حلمي ان تبقى هذه المجلة في استمرار الصدور حيث كنت اشرف على كامل موادها والطبع وشحنها للعراق ولكن سفري الى اوربا واستقراري في المانيا ابعدني عن تكملة مشواري الجميل مع هذا المنجز واتمنى للسيد وزير الموارد المائية الجديد أن يبعث الحياة في هذا المطبوع المهم حتى لو بهيئة تحرير جديدة.
الاهوار رقعة جغرافية مرتبطة كثيرا بالسياسة والتمرّد.. غير الطبيعة الجغرافية الخاصة هل هناك ما يربط المتمردين بالاهوار؟ ماهذه العلاقة المتكررة؟ ثورة الزنوج ثورات على العثمانيين ثورات على الانجليز وحزب البعث وغيرهم ؟
- الأهوار منطقة جغرافية صعبة التضاريس، وأغلب مساحتها هي الماء والقصب والوسيلة الوحيدة في التنقل بين مجمعاتها السكانية هي الزوارق والمسماة شعبيا (الشختورة أو الطارودة) وهذا مما منحها خصوصية أن تكون ملجئا آمنا للكثير ممن حمل راية الرفض والمقاومة ضد طاغية أو مستعمر أو ظالم، هذا ما جعل تلك الاماكن الحاضنة الثورية للكثير من الجماعات الثورية والفقراء فكانت ملاذا لثورات الزنج ضد خليفة بغداد العباسي وحاضنة لثورات عرب الاهوار ضد المستعمر العثماني وبعده الانكليزي، وحتى انها كانت قواعد للثوار الشيوعيين ايام الحكم الملكي والعارفي ثم شهدت هذه المنطقة اكبر ثوراتها بعد غزو العراق للكويت في 1990. وأستمرت هذه الاماكن الحاضنة الطبيعة لتلك الثورة ذات الطابع الثوري الشيعي حتى عام 2003. ليبدا زمن طموحها في عودة المياه اليها بعد خطة تجفيفها بسبب ثوريتها وعنادها في رفض انظمة التسلط والتهميش.
مياه ونفط وآثار .... كيف تقرأ هذا الترابط الغريب في هذه المنطقة ؟
- أنها منحة الله لهذه الارض، والغريب انها لم تستفد لحد هذه اللحظة من تلك النعمة. وربما هذه الثروات هي قدرية المكان والتأريخ لهذه الارض لتتميز عن غيرها، ولو كانت هذه الاماكن وبتلك المميزات ونعم في المانيا مثلا لتحولت على جنائن ساحرة، لكن الانظمة ومزاج الملوك والمستعمر والتخلف الذي ابقاه الحاكم والمستعمر قائما في ربوع هذه الاماكن حتى يعزلها ويطفيء شموع الطموح في ذاكرة اهلها، ولكنها تدرك قيمة خيراتها وثرواتها لهذا فهي تثور كل يوم من اجل ان تمتلك خيراتها حتى تطور بنيتها الخدمية والعمرانية. فأنا أظن ان مياه الاهوار وما تحتها بالاضافة الى الثروة السمكية والسياحية الاثارية الهائلة فأن في باطنها خزينا هائلا من البترول والمعادن الاخرى.
هل هناك سبيل لابعاد الاهوار عن السياسة وتتحول الى ملك لاهلها يعيشوا فيها بهدوء ؟
- نعم بالأمكان وهذا ربما حلم اهلها، فبسبب السياسة نالت الاهوار من الاذى الكثير واهمها انها عانت التجفيف المسيّس وسيق ابناؤها الى اتون الحروب والزنازين ليعدموا او يسجنوا مدى الحياة او يشردوا خارج اماكن بيئتهم وسكناهم في المحافظات الاخرى. السبيل هو ان تعي الدولة الجديدة حاجة ابناء الاهوار للهدوء وتطوير حياتهم وتوفير المياه لمناطقهم لتكون كسابق عهدها .
لماذا كان الوافد والاجنبي هو المنصف الحقيقي للاهوار ؟ ولماذا لم يكن المنصفون لها هم المحيطون بها ؟
- الوافد الاجنبي (الرحالة أو المستشرق) هو من انصف المكان وتاريخه، لقد وجد هؤلاء الرحالة والدارسون في عالم الاهوار عالما للبدء التاريخي ومحطة للطبيعة النقية التي تتميز بسحرها وجمالها وروعة طبائع اهلها عن كل بقاع العالم كما انها الموطن الاول للانبياء الاوائل، لهذا احبوا المكان وعايشوه ودرسوه بعمق وعناية وتركوا لنا ارثا رائعا من الكتب والصور النادرة التي تؤرشف حياتهم في بدايات القرن الماضي وحتى زمن الحرب مع ايران. واهم من كتب في هذا هو ولفريد ثيسيغر في كتابه «المعدان» وماكسويل كالفن في كتابه «قصبة في مهب الريح» وكذلك هناك كتابات رائعة ومهمة للمستشرقة البريطانية الليدي دورورا التي عايشت طائفة الصابئة المندائيين في مناطق سكناهم في الاهوار وكتبت عن حياتهم وطقوسهم الدينية في تلك الاماكن. وغير هؤلاء كتب الكثير من ضباط الحملات العسكرية الانكليزية وبعض الباحثين .
ايضا هناك من العراقيين من كتبوا عن هذا العالم ولكن اغلبه في المنتج الابداعي في الرواية والقصة وكذلك بعض الكتب التي تناولت هذا العالم .
رحمة الاماكن
الاهوار اصبحت موضوعا دوليا بشكل او بآخر ... واصبح مصير الاهوار بيد غيرها على الاقل فيما يتعلق بالمياه ... فهل سومر التي نتغنى بها بائسة الى هذا الحد ؟
- هي ليست بائسة ولكن قدرها الجغرافي والتاريخي بهذا الشكل لتكون تحت رحمة الاماكن الابعد والتي هي خارج الحدود. ولهذا كل الحكومات تحاول ان تدوّل المكان وتتاجر في محنته من خلال دعوة المنظمات العالمية لانقاذ هذا المكان عندما تقرر تركيا مثلا في انقاص كمية العراق القادمة من المنابع التي تقع في اراضيها لهذا فأن تلك الاماكن ارتهنت قدريا بتلك السياسة، فكان هذا هو قدرها. القدر الذي يرتهن بكميات ومناسيب المياه. اما ايام سومر فلم يكن لهاجس السياسة وجود وكان الماء يأتي بوفره حد الطوفان والفيضان فلهذا عاشت تلك الاماكن ايام زهوها ومجدها الحضاري ايام سومر ولم تبتئس يوما ما إلا عندما اتى الغرباء واحرقوا اور وانتهى عهد سومر معها .
تكتب في مقال لك:» ما زال الهور عبارة عن سلة هائلة ترمى بها الوعود والمشاريع».عملت قريبا من بعض المؤسسات الرسمية المعنية بشكل او باخر بالاهوار ... بنظرك ما هي اسباب التلكوء ؟
- نعم مازال، وهذا ما كنت اناقشه دائما مع المهتمين وبعض المسؤولين عن انعاش الاهوار فكانت اجوبته تعلل ذلك بالموازنات المالية والدعم والجدية لدى الجهات المانحة واغلبها كما كنت اشاهدها واحسها بطيئة وخاضعة للبيرقراطية والفساد الاداري، وكنت احس واشاهد معاناة وزراء الموارد المائية في ذلك الامر فليس وزارتهم وحدها من تهتم بأنعاش الاهوار بل كانت هناك وزارة اخرى تهتم بالاهوار ولها وزير مستقل، ولم تقدم أيّ مشروع بتمام الانجاز، فعدا مشاريع وزارة الموارد المائية و التي يتعلق معظها بمشاريع الارواء والنواظم والتي تم انجاز اغلبها فإن بقية المشاريع التابعة للجهد الساند الاخر في قطاع الصحة والمياه والاسكان لم يتحقق منها في مستوى طموح ابناء الاهوار ولهذا ظلت مناطق الاهوار عبارة عن سلة هائلة لوعود لم تتحقق.